السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لماذا تقسو قلوبنا ؟
القلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه التوبة ، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه
الذِكر ، ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى ، ويجوع كما يجوع البدن
وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة .
وأمراض القلب كثيرة وهي تختلف حسب نوع المؤثرات
التي تحيط بالقلب ، وكلما قويت المؤثرات على القلب كلما قوي المرض واشتد
حتى يطبع عليه ويزيغ عن الحق ، وعندها تكون حالة موت القلب التي هي أسوأ
الحالات ؛ لأنها تنقل صاحبها من الإيمان إلى الكفر ، وتجعله في مرتبة
البهائم والعياذ بالله .
ومن أشد هذه الأمراض التي تصيب القلوب مرض قسوة
القلب ، وهو مرض خطير تنشأ عنه أمراض ، وتظهر له أعراض ، ولا يسلم من ذلك
إلا من سلمه الله وأخذ بالأسباب ، وتظهر خطورة هذا المرض من خلال هذه
الآيات ، يقول تعالى{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }(البقرة : 74) ، ويقول سبحانه {
وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ } الأنعام :43 ويقول { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم
مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } ( الزمر : 22 ) ، ويقول { فَطَالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } ( الحديد 16 ) وأبعد القلوب من الله
القلب القاسي .
فتعال معي – أخي الحبيب – لنقف على مظاهر هذا المرض وأسبابه وطرق علاجه .
مظاهر قسوة القلب
لقسوة القلب أعراض ومظاهر تدل عليها ، وهي تتفاوت من حيث خطورتها وأثرها على صاحبها ، ومن أهم هذه المظاهر :
1- التكاسل عن الطاعات وأعمال الخير وخاصة
العبادات: وربما يفرط في بعضها ، فالصلاة يؤديها مجرد حركات لا خشوع فيها
، بل يضيق بها كأنه في سجن يريد قضائها بسرعة ، كما أنه يتثاقل عن أداء
السنن والنوافل ، ويرى الفرائض والواجبات التي فرضها الله عليه كأنها
أثقال ينوء بها ظهره فيسرع ولسان حاله يقول : أرتاح منها ، وقد وصف الله
المنافقين فقال : { وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى
وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} ( التوبة : 54) وقال : {
وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } ) النساء : 14)
2- عدم التأثر بآيات القرآن الكريم والمواعظ :
فهو يسمع آيات الوعد والوعيد فلا يتأثر ولا يخشع قلبه ولا يخبت ، كما أنه
يغفل عن قراءة القرآن ، وعن سماعه ويجد ثقلاً وانصرافاً عنه ، مع أن الله
تعالى يقول : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } ( ق : 45)
ومدح الله المؤمنين بقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (الأنفال :
2).
3- عدم تأثره بشيء مما حوله من الحوادث كالموت والآيات الكونية :
والعجائب التي تمر عليه بين حين وآخر ، فهو لا يتأثر بالموت ولا
بالأموات ، ويرى الأموات ويمشي في المقابر وكأن شيئاً لم يكن ، وكفى
بالموت واعظاً ، قال تعالى { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي
كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ
يَذَّكَّرُونَ } (التوبة:126).
4- يزداد ولعه بملذات الدنيا ويؤثرها على الآخرة : فتصبح الدنيا
همه وشغله الشاغل ، وتكون مصالحه الدنيوية ميزاناً في حبه وبغضه وعلاقاته
مع الناس ؛ فيكون في الحسد والأنانية والبخل والشح .
5- يضعف فيه تعظيم الله جل جلاله : وتنطفئ
الغيرة ، وتقل جذوة الإيمان ، ولا يغضب إذا انتهكت محارم الله ، فيرى
المنكرات ولا تحرك فيه ساكناً ، ويسمع الموبقات وكأن شيئاً لم يكن ، لا
يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، ولا يبال بالمعاصي والذنوب .
6- الوحشة التي يجدها صاحب القلب القاسي : وضيق الصدر والشعور بالقلق والضيق بالناس ، ولا يكاد يهنأ بعيش أو يطمأن ؛ فيظل قلقاً متوتراً من كل شيء .
7- أن المعاصي تزرع أمثالها : ويولد بعضها بعضاً حتى يصعب عليه مفارقتها ، وتصبح من عاداته .
أسباب قسوة القلب
لقسوة القلب أسباب كثيرة ومتعددة وبعضها أكثر خطورة من الآخر ، وتزداد القسوة كلما تعددت الأسباب ، ولعل أهم هذه الأسباب ما يلي :
1- تعلق القلب بالدنيا والركون إليها ونسيان الآخرة
: وهذا من أعظم الأسباب التي تقسي القلوب ، فإن حب الدنيا إذا طغى على
قلب الآخر تعلق القلب بها ، وضعف إيمانه شيئاً فشيئاً حتى تصبح العبادة
ثقيلة مملة ، ويجد لذته وسلواه في الدنيا وحطامها حتى ينسى الآخرة أو يكاد
، ويغفل عن هادم اللذات ، ويبدأ عنده طول الأمل ، وما اجتمعت هذه
البلايا في شخص إلا أهلكته .
2- الغفلة : وهي داءٌ وبيل ٌ ، ومرض خطير إذا
استحوذ على القلوب ، وتمكن من النفوس ، واستأثر على الجوراح والأبدان أدى
إلى انغلاق كل أبواب الهداية ، وحصول الطبع والختم على القلوب {
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ( النحل : 108) .
3- مصاحبة أصدقاء السوء ، والجلوس في الأجواء
الفاسدة : وهذا السبب من أكثر الأسباب تأثيراً ، وذلك لأن الإنسان سريع
التأثر بمن حوله ، فالشخص الذي يعيش في وسط يعجُ بالمعاصي والمنكرات ،
ويجالس أناساً أكثر حديثهم عن اللذات المحرمة والنساء ، ويكثرون المزاح
والضحك والنكات وسماع الغناء ورؤية المسلسلات ، هذا الشخص لا بد أن يتأثر
بهؤلاء الجلساء وطبعه يسرق من طبعهم ، فيقسو قلبه ويغلط ، ويعتاد على
هذه المنكرات .
4- كثرة الوقوع في المعاصي والمنكرات بحيث تصبح
شيئاً مألوفاً : فإن المعصية ولو كانت صغير تمهد الطريق لأختها حتى
تتابع المعاصي ويهون أمرها ، ولا يدرك صاحبها خطرها ، وتتسرب واحدة وراء
الأخرى إلى قلبه ، حتى لا يبالي بها ، ولا يقدر على مفارقتها ويطلب ما هو
أكثر منها ، فيضعف في قلبه تعظيم الله وتعظيم حرماته ، كما أنها تضعف سير
القلب إلى الله والدار الآخر وتعوقه أو توقفه فلا تدعه يخطوا إلى الله
خطوة ، فالذنب يحجب الواصل ، ويقطع السائر ، وينكس الطالب ،إذن التفريط فى
الفرائض: قال الله تعالى " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم
قاسية "
و يقول النبي صلى الله عليه وسلم (( إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه
نكتة سوداء ، فإذا تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلوا
قلبه ، فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى
قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ( المطففين : 14) [ رواه أحمد
والترمذي وحسنه الألباني ]
5- نسيان الموت وسكراته ، والقبر وأهواله :
وعذابه ونعيمه ، ووضع الموازين ، ونشر الدواوين ، والمرور على الصراط ،
ونسيان النار وما أعد الله فيها لأصحاب القلوب القاسية .
6- الاشتغال بما يفسد القلب ويقسيه : ومفسدات القلب خمسة ذكرها ابن القيم
وهي كثرة الخلطة ، وركوب بحر التمني ، والتعلق بغير الله ، وكثرة الطعام
، وكثرة النوم .
7- أكل الحرام: أي أن يكون المال الذي يعيش منه
المرء مالاً مكتسبًا من طرقٍ غير شرعيَّةٍ.. كالعمل في الخمر، والربا،
والقمار، والمخدرات، وغير ذلك من أصناف المحرمات.. فإذا كان المرء يتغذى
على الحرام فإنَّ ذلك يكون سببًا له في قسوة قلبه، ومانعًا له من استجابة
دعائه، مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله طيِّبٌ لا
يقبل إلا طيِّبًا، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:
(يا أيُّها الرسل كلوا من الطيِّبات واعملوا صالحا)، وقال: (يا أيُّها
الذين آمنوا كلوا من طيِّبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إيَّاه
تعبدون)، ثمَّ ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء
يقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذي
بالحرام.. فأنَّى يُستجاب له) رواه مسلم، فهذا الحديث يبيِّن فيه عليه
الصلاة والسلام أنَّ القوت الحرام يُفسد على المرء دينه، ويورثه قسوة
القلب، ويحول بينه وبين استجابة دعائه، وهذا يعني أنَّ هذا المرء يكون
بعيدًا عن ربِّه غير قريبٍ منه، فلا ينظر الله تعالى إليه ولا يستجيب له
دعاءً.
علاج قسوة القلب
والآن – أخي الحبيب – بعد أن وقفنا على مظاهر هذا
الداء وأسبابه ، وفحصنا المرض ، نقف على سُبل علاجه ، السُبل التي تجعله
رقيقاً منكسراً خاشعاً لخالفه عز وجل ، يُقبل على الله بعد أن كان معرض
عنه ، ويقف عند حدوده بعد أن كان مجترئاً عليها .
إن نعمة رقة القلب من أجل النعم وأعظمها ، وما من قلب يُحرم هذه النعمة
إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله فقد قال سبحانه { فَوَيْلٌ
لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } (الزمر:22) ، وما رق
قلب لله وانكسر إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات ، مشمراً للطاعات ، أحرص
ما يكون على طاعة الله ومحبته ، وأبعد ما يكون من معاصيه . وها هي –أخي
الحبيب – بعض الأمور التي تزيل القسوة عن قلبك ، وتجعله رقيقاً منكسراً
لخالقه ومولاه :
1- المعرفة بالله تعالى : فمن عرف ربه حق
المعرفة رق لبه ، ومن جهل ربه قسا قلبه ، وما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت
صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل وأبعدهم عن المعرفة به ، وكلما عظم
الجهل بالله كلما كان العبد أكثر جرأة على حدوده ومحارمه ، وكلما وجدت
الشخص يديم التفكير في ملكوت الله ، ويتذكر نعم الله عليه التي لا تعد
ولا تحصى ، كلما وجدت في قلبه رقة .
2- تذكر الموت وما بعده : من سؤال القبر وظلمته
ووحشته وضيقه ، وأهوال الموت وسكراته ، ومشاهدة أحوال المحتضرين وحضور
الجنائز ، فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها ، ويوقفها من رقدها ، وينبهها
من غفلتها ، فتعود إلى ربها وترق ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم
يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول : (( أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ، فإنه
لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها
عليه )) (رواه البيهقي وحسنه الألباني ) ويقول سعيد بن جبير رحمه الله :
لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد علي قلبي .
3- زيارة القبور والتفكر في حال أهلها : وكيف
صارت أجسادهم تحت التراب وكيف كانوا يأكلون ويتمتعون ويلبسون مالذ وطاب
فأصبحوا تراباً في قبورهم ، وتركوا ما ملكوا من أموال وبنين ، ويتذكر أنه
قريباً سيكون بينهم ، وأن مآله هو مآلهم ، ومصيره هو مصيرهم ، فزيارة
القبور عظة وعبرة ، وتذكير وتنبيه لأهل الغفلة ، ولهذا قال النبي صلى
الله عليه وسلم (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ؛ فإنها ترق
القلب ، وتدمع العين ، وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هُجراً )) ( رواه الحاكم
وصححه الألباني ) ، ومن نظر إلى القبور وإلى أحوال أهلها انكسر قلبه ورق ،
وذهب ما به من القسوة ، وأقبل على ربه إقبال صدق وإخبات .
4- النظر في آيات القرآن الكريم : والتفكر في
وعده ووعيده وأمر ونهيه ، فما قرأ عبد القرآن وكان عند قراءته حاضر القلب
مفكراً متأملاً إلا وجدت عينه تدمع ، وقلب يخشع ، ونفسه تتوهج إيماناً
من أعماقها تريد السير إلى ربها ، وما قرأ عبد القرآن أو استمع إلى آياته
إلا وجدته رقيقاً قد خفق قلبه واقشعر جلده من خشية الله {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}
(23) سورة الزمر.
5- تذكر الآخرة والتفكر في القيامة وأهوالها : والجنة وما أعد الله
فيها للطائعين من النعيم المقيم ، والنار وما أعد الله فيها للعاصين من
العذاب المقيم ، فإن ذلك يذهب النوم عن الجفون ، ويحرك الهمم الساكنة
والعزائم الفاترة ، فتقبل على ربها إقبال المنيب الصادق ، وعندها يرق
القلب .
6- الإكثار من الذكر والاستغفار : فإن للقلب
قسوة لا يذيبها إلى ذكر الله تعالى ، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه
بذكر الله تعالى ، وقد قال رجل للحسن : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي .
قال : أذِبه بالذكر . وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به
القسوة ، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ن
فما أذيبت قسوة القلب بمثل ذكر الله تعالى . يقول ابن القيم رحمه الله :
(( صدأ القلب بأمرين : بالغفلة والذنب ، وجلاؤه بشيئين بالاستغفار
والذكر ...)).
7- زيارة الصالحين وصحبتهم ومخالطتهم والقرب منهم :
فهم يأخذون بيدك إن ضعفت ، ويذكرونك إذا نسيت ، ويرشدونك إذا جهلت ، إن
افتقرت أغنوك ، وإن دعوا الله لم ينسوك ، ورؤيتهم تذكر بالله وتعين على
الطاعة ، قال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطًا }( الكهف : 28) ويقول جعفر بن سليمان : كنت إذا وجدت من
قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع .
8- مجاهدة النفس ومحاسبتها ومعاتبتها : فإن
الإنسان إذا لم يجاهد نفسه ويحاسبها ويعاتبها وينظر في عيوبها ، ويتهمها
بالتقصير لا يمكن أن يدرك حقيقة مرضها ، وإذا لم يعرف حقيقة المرض فكيف
يتمكن من العلاج ؟! لهذا لا بد من تذكير النفس بضعفها وافتقارها إلى
خالقها ، وإيقاظها من غفلتها ، وتعريفها بنعم الله عليها ، ومراقبتها
ومحاسبتها على كل صغيرة وكبيرة حتى يسهل عليه قيادها والتحكم فيها .
9- الاستماع للموعظة: وهو أشدُّ تأثيرًا في
القلب من قراءة الكتب، فالاستماع له أثره في القلب ووقعه على النفس،
فلذلك ينبغي للمؤمن أن يجلس مع الصالحين في مجالس المواعظ والدروس التي
يلقيها العلماء الراشدون، فيختار من أهل العلم من يطمئن إلى دينه وعلمه
فيجلس إليه ويستمع من مواعظه، كما يحرص على حضور الجمعة عند الخطباء
الراشدين الذين ينتفع بحديثهم، ويتنوَّر قلبه بمواعظهم، فالعلماء
والخطباء كثير، ولكن الراشد منهم قليل، لذلك فعلى المسلم أن يختار من
يستمع منه وينتفع بحديثه، مصداقًا لقول الله عزَّ وجلّ: (فبشِّر عبادِ *
الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم
أولوا الألباب)، فالله عزَّ وجلَّ يرشد العباد أن يستمعوا أحسن القول،
وأقربه إلى قلوبهم ليكون له أثره المطلوب في تنوير القلب وتليينه.
10- مواساة الفقراء والمعوزين: ولاسيَّما اليتامى منهم، فإنَّ
الإحسان إلى المحرومين يكافئ الله عليه عبده بتليين قلبه، وتربية الرقة
فيه، مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أردت أن يلين قلبك
فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم) رواه الطبراني وقال الألباني حديثٌ
حسن، فمواساة المحرومين والفقراء يثيب الله عليها عبده بهذه الصفة
الجليلة، ألا وهي تليين القلب وجعله خاضعًا خاشعًا لله تعالى.
11- المداومة على العمل الصالح :باختلاف أنواعه
وأصنافه، فلا ينقطع العبد عن العمل الصالح قدر استطاعته وحسب قدرته،
لأنَّ الاستمرار في العمل الصالح والمداومة عليه تجعل العبد دائم الصلة
بربِّه، وعلى علاقةٍ متينةٍ به سبحانه، وهذا ما نفهمه من قول الله عزَّ
وجل: (ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقِّ
ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم)،
فالله عزَّ وجلَّ يُحذِّر المؤمنين من صنيع أهل الكتاب من قبلهم، الذين
أعرضوا عن دينهم، وغفلوا عن العمل الصالح، وأقبلوا على الدنيا ومغرياتها
وشهواتها، فطال عليهم الأمد.. أي بعدت بينهم وبين دينهم وعبادة ربهم
المسافة فقست قلوبهم، فلذلك يأمر سبحانه عباده من أهل الإسلام أن يكونوا
دائمًا خاشعين لله عزَّ وجلَّ، مُقبلين على عبادته، متمسِّكين بالعمل
الصالح حتى لا تنقطع العلاقة بينهم وبين ربِّهم، وحتى لا يطول عليهم
الأمد وينسوا كثيرًا ممَّا أُمِروا به.
12- تعهُّد النفس بالتوبة الدائمة من كلِّ ذنبٍ: فإنَّ
الران الذي تصنعه المعاصي على القلب حتى تغلِّفه بسواد المعصية لا
يُذيبه إلا سرعة التوبة والأوبة إلى الله عزَّ وجل، يقول النبي صلى الله
عليه وسلم: (إنَّ العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا
هو نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلو قلبه، وهو
الرَّان الذي ذكر الله (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)) رواه
الترمذي وقال حسنٌ صحيح، فدوام التوبة الصادقة تجعل القلب في حياة دائمة،
ولا تترك فرصةً للران - الذي يُورِث القلب القسوةَ - في أن يتكوَّن.
13- ثمَّ بعد هذا نلجأ إلى الدعاء: وتتضرَّع
إلى الله عزَّ وجلَّ أن يُليِّن قلبك، ويجعله خاشعًا لذكره سبحانه،
ولاسيَّما أن تُكثر من الدعاء الذي علَّمنا إيَّاه النبي صلى الله عليه
وسلم إذ قال: (ما أصاب أحدٌ قط همٌّ ولا حزنٌ فقال:اللهمَّ إنِّي عبدك،
ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك،
أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو
أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع
قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همِّي، إلا أذهب الله همَّه وحزنه،
وأبدله مكانه فرجًا، قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلَّمها؟ فقال: بلى
ينبغي لمن سمعها أن يتعلَّمها) رواه أحمد وصحَّحه الألباني، فلتُكثِر من
هذا الدعاء في مختلف الأحوال، ولاسيَّما في أوقات الاستجابة.. كالسجود،
وبين وقت الآذان والإقامة، وفي يوم الجمعة، وهكذا.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا قلوباً خاشعة ، وألسنة ذاكرة ،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم