موضوع: خيف بني كنانة السبت أكتوبر 15, 2011 12:33 pm
خيف بني كنانة
لحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلقد شهد خيف بني كنانة حوادث سجلها التاريخ، وستظل مرتبطة به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو تاريخ ارتبط بشخصيات تمالأت وتعاهدت على الكفر والظلم والعدوان، ويشهد عليها هذا المكان بما فعلت {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (الزلزلة:4).
حيث ذكر المؤرخون أن قريشاً بعد أن اشتدت حيرتها، وقلَّت حيلتها، وفشلت كل محاولاتها في القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، والتخلص منه ومن دعوته، حيث كان بنو هاشم وبنو المطلب يحمونه، قررت قطع كل الصلات بينها وبين من دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحالفت على وثيقة ملزمة لكافة قريش بأن تحاصر النبي صلى الله عليه وسلم وكل من دافع عنه، وكتبت بذلك صحيفة علقتها في جوف الكعبة، وكانت بنود المعاهدة تنص على: "ألا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم، وألا يبايعوهم، ولا يبتاعوا منهم، ولا يؤوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"[1]، وهذه هي الحادثة المظلمة التي ارتبطت بأولئك المحاربين لله ورسوله، وكانت في أول يوم من المحرم سنة سبع من البعثة، واستمرت ثلاث سنوات[2].
ثم لا تلبث الأيام أن توالت، والسنون أن مضت حتى أشرق التاريخ يملؤه النور والخير، وتتجلى فيه العبودية في أبهى صورها وحللها، عندما نزل سيد المرسلين في آخر أيام التشريق عند نفرته من منى في هذا الخيف نفسه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى: ((نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر)) يعني ذلك المحصب، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب: أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم". رواه البخاري (1513)، ومسلم (1314) فلم يزل الخير مُذْ سن الخير فيه صاحب الخير صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قيل إنما اختار النبي صلى الله عليه وسلم النزول في ذلك الموضع ليتذكر ما كانوا فيه، فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم، وتمكنهم من دخول مكة ظاهراً على رغم أنف من سعى في إخراجه منها، ومبالغة في الصفح عن الذين أساءوا، ومقابلتهم بالمن والإحسان، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"[3].
وفي هذا الموطن يتذكر المؤمن الصراع الذي وقع بين الحق والباطل، وظهور الحق بعد جولة الباطل التي كانت، وبقاء الحق ظاهراً عالياً، يتذكر هذا الموقف العظيم وهو ينظر إلى جموع المسلمين تطأ أرض تلك المشاعر والمناسك، ويعلم فضل الله على ما أظهره من شعار الإسلام.
موقع خيف بني كنانة:
الخَيْف: ما ارتفع من موضع مجرى السيل، وانحدر عن غلظ الجبل، وجمعه أخياف.
وخيف بني كنانة هو المحصب، ويعرف بالبطحاء، والأبطح، وهو موضع بين مكة ومنى وهو إلى منى أقرب[4]، قال الإمام النووي رحمه الله: "والأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة اسم لشيء واحد، وأصل الخيف كل ما انحدر عن الجبل وارتفع عن الميل"[5]، ويسمى اليوم بالمعابدة.
حكم النزول بالمحصب:
نزل النبي صلى الله عليه وسلم فيه بعد أن ضرب أبو رافع قبة هناك توفيقاً من الله له دون أن يأمره صلى الله عليه وسلم، وكان أبو رافع على ثقله[6]، وصلى به الظهر والعصر، والمغرب والعشاء؛ ورقد فيه رقدة، وجاء عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلي بها يعني المحصب الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ويهجع هجعة، ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري (1679).
وعن نافع أن ابن عمر كان يرى التحصيب سنَّة، وكان يصلي الظهر يوم النفر بالحصبة، قال نافع: "قد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده". رواه مسلم (1310).
وذهب آخرون منهم ابن عباس، وعائشة رضي الله عنهما إلى أنه ليس بسنة، وإنما هو منزل اتفاق فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري (1677)، ومسلم (1312)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما كان منزلاً ينزله النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه (تعني بالأبطح)". رواه البخاري (1676)، وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: "لم يأمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكنى جئت فضربت فيه قبته فجاء فنزل" رواه مسلم (1313)/ فأنزله الله فيه بتوفيقه تصديقاً لقول رسوله: ((نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة)).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "ولم يكن منزل أنسب لمبيته من المحصب الذي كانت قريش قد عاقدت بني كنانة على بني هاشم وبني المطلب فيه، فلم يبرم الله لقريش أمراً، بل كبتهم، وردهم خائبين، وأظهر الله دينه، ونصر نبيه، وأعلى كلمته، وأتم له الدين القويم، وأوضح به الصراط المستقيم؛ فحج بالناس، وبيَّن لهم شرائع الله وشعائره، وقد نفر بعد إكمال المناسك فنزل في الموضع الذي تقاسمت قريش فيه على الظلم والعدوان والقطيعة فصلى به الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وهجع هجعة"[7].
والمذاهب الأربعة على أن التحصيب سنة ليس بواجب[8]، وهو ليس من النسك، فإذا تركه لم يؤثر ذلك في حجه[9]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "الأقرب أن نزول المحصب ليس بسنة"[10].
وفي العصر الحاضر فقد أصبح المحصب مليئاً بالبنايات والعمارات والأسواق، فلم يعد يتيسر النزول به كما قال العلامة ابن العثيمين رحمه الله: "أما الآن فنزول المحصب مستحيل، لأنه صار بنايات وعمارات وأسواق"[11].
نسأل الله الكريم أن يتقبل منا أعمالنا، وأن يلهمنا رشدنا، والحمد لله رب العالمين.
[1] البخاري (1513)، ودلائل النبوة للبيهقي (2/315)، وسيرة ابن كثير (2/47).