موضوع: الخيروالشر الثلاثاء نوفمبر 15, 2011 8:32 pm
تأملت الأرض و من عليها بعين فكري فرأيت خرابها أكثر من عمرانها . ثم نظرت في المعمور منها فوجدت الكفار مستولين على أكثره و وجدت أهل الإسلام في الأرض قليلا بالإضافة إلى الكفار . ثم تأملت المسلمين فرأيت المكاسب قد شغلت جمهورهم عن الرازق و أعرضت بهم عن العلم الدال عليه . فالسلطان مشغول بالأمر و النهي و اللذات العارضة له و مياه أغراضه جارية لا شكر لها . و لا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس . و إنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها . كما قال عمر بن المهاجر : قال لي عمر بن عبد العزيز : [ إذا رأيتني قد حدت عن الحق فخذ بثيابي و هزني و قل : مالك يا عمر ؟ ] . و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : [ رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا ] . فأحوج الخلق إلى النصائح و المواعظ السلطان . و أما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى و زينة الدنيا و قد انضاف إلى ذلك الجهل و عدم العلم فلا يؤلمهم ذنب و لا ينزعجون من لبس حرير أو شرب خمر حتى ربما قال بعضهم : [ إيش يعمل الجندي أيلبس القطن ؟ ] . ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها فالظلم معهم كالطبع . و أرباب البوادي قد غمرهم الجهل و كذلك أهل القرى ما أكثر تقلبهم في الأنجاس و تهوينهم لأمر الصلوات و ربما صلت المرأة منهن قاعدة . ثم نظرت في التجار فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص حتى لا يرون سوى وجوه الكسب كيف كانت و صار الربا في معاملتهم فاشيا فلا يبالي أحدهم من أي تحصل له الدنيا ؟ . و هم في باب الزكاة مفرطون و لا يستوحشون من تركها إلا من عصم الله . ثم نظرت في أرباب المعاش فوجدت الغش في معاملاتهم عاما و التطفيف و البخس و هم مع هذا مغمورون بالجهل . و رأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلبا للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه و ما يتأدب به . ثم نظرت في أحوال النساء فرأيتهن قليلات الدين عظيمات الجهل ما عندهم من الآخرة خبر إلا من عصم الله . فقلت : واعجبا فمن بقي لخدمة الله و معرفته ؟ . فنظرت فإذا العلماء و المتعلمون و العباد و المتزهدون فتأملت العباد و المتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بغير علم و يأنس إلى تعظيمه و تقبيل يده و كثرة أتباعه حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل لئلا ينكسر جاهه . ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى ألا يعودوا مريضا و لا يشهدوا جنازة إلا أن يكون عظيم القدر عندهم و لا يتزاورون بل ربما ضن بعضهم على بعض بلقاء فقد صارت النواميس كلأوثان يعبدونها و لا يعلمون . و فيهم من يقدم على الفتوى و هو جاهل لئلا يخل بناموس التصدر ثم يعيبون العلماء لحرصهم على الدنيا و لا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه إلا تناول المباحات . ثم تأملت العلماء المتعلمين فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به و جمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد أو قدر ما يتميز به عن عن أبناء جنسه لم يكتفي . ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى و يستخدمه فهو يؤثر ما يصده العلم عنه و يقبل على ما ينهاه و لا يكاد يجد ذوق معاملة الله سبحانه و إنما همته أن يحدث و حسب . إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة جامع بين العلم و العمل غارف بحقوق الله تعالى خائف منه فذلك قطب الدنيا و متى مات أخلف الله عوضه . و ربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة . و مثل هذا لا تخلو الأرض منه فهو بمقام النبي في الأمة . و هذا الذي أصفه يكون قائما بالأصول حافظا للحدود و ربما قل علمه أو قلت معاملته . فأما الكاملون في جميع الأدوات فيندر وجودهم فيكون في الزمان البعيد منهم واحد . و لقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين و بين العمل حتى صار قدوة للعابدين فلم أر أكثر من ثلاثة : أولهم الحسن البصري و ثانيهم سفيان الثوري و ثالثهم أحمد بن حنبل . و قد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتابا و ما أنكر على من ربعهم بسعيد بن المسيب . و إن كان في السلف سادات إلا أن أكثرهم غلب عليه فن فنقص من الآخر فمنهم من غلب عليه العلم و منهم من غلب عليه العمل و كل هؤلاء كان هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم و النصيب الأوفى من المعاملة و المعرفة . و لا يأس من و جود من يحذو حذوهم و إن كان الفضل بالسبق لهم فقد أطلع الله الخضر على ما خفى من موسى عليهما السلام . فخزائن الله مملوءة و عطاؤه لا يقتصر على شخص . و قد حكي لي عن ابن عقيل أنه كان يقول عن نفسه : [ أنا عملت في قارب ثم كسر ] . و هذا غلط فمن أين له ؟ فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه على ذلك و كم من متأخر سبق متقدما و قد قيل : . ( إن الليالي و الأيام حاملة ... و ليس يعلم غير الله ما تلد ) الامام ابن الجوزي