ـ زوج يريد من الزوجة أن تعطيه حقه كاملاً وهو يبخسها حقها.
ـ صاحب يريد من صاحبه أن يكون له مثل العسل، لكنه يعامل صاحبه بما هو مر كالحنظل . ـ موظف يطلب الراتب كاملاً، لكنه لا يعطي الوظيفة حقها دواما وعملا.
ـ مدرس أو معلم يريد من التلاميذ أن يحترموه ، وهو لا يلين لهم، ولا يعطي الدرس حقَّه. ـ رجل استأجر أجيراً، فاستوفى الحق منه تاماً لكنه لم يعطه الأجرة كاملة .
كل هؤلاء مطففون ؛ لأنهم يستوفون حقوقهم كاملة ، ولا يعطون الحق الذي عليهم كاملاً. فماذا ينتظرهم يوم القيامة؟ انه الوعيد الشديد (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
قال تعالىأَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) فهذه سياحة في أوائل سورة المطففين يتعلم منها المسلم كيف أن هذا القرآن العظيم قد أعطى تصورا شاملا لنواحي الحياة جميعا ، التي غفل عنها الكثير من المسلمين اليوم ، فلم يعرفوا من الإسلام إلا اسمه ، ومن المصحف إلا رسمه ، إنها تذكرة ، ودعوة لفهم كتاب الله وتدبر آياته. قال الله تعالىوَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ويل: كلمة ترد في القرآن الكريم كثيراً، فما معنى هذه الكلمة؟ .
قيل: إنها اسم واد يسيل منه صديد أهل النار تستغيث منه النار من شدة هوله، وعلى هذا فتكون اسماً لشيء محسوس، وقيل: إنها كلمة وعيد، فمعنى ويل: أي وعيد شديد لهؤلاء، ، ومعناها على القول الراجح: أنها كلمة وعيد يتوعد الله تبارك وتعالى بها من أسندت إليه. هؤلاء المطففون الأشقياء لهم صفتان: الصفة الأولى: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ )
يعني: إذا طلبوا حقهم من الناس استوفوا، وليس فيه لوم على الإنسان أن يستوفي حقه، لكن اللوم أن يستوفي حقه كاملاً، ولكنه لا يعطي الحق الذي عليه كاملاً، ولهذا قال: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي: ينقصون، وهذه هي الصفة الثانية، فهل هذا عدل أم جور؟
إن الإنسان الذي يطلب حقه كاملاً، ويعطي الحق الذي عليه ناقصاً إنسان جائر ؛ لأن هذا خلاف العدل، والله تعالى لا يحب الجائرين، انه يحب المقسطين العادلين.
قال أهل العلم: إن هذه الآية عامة في جميع الحقوق التي بين العباد ، وإنما ذكر الله الكيل والوزن لأنه معروف، فكل الباعة الذين يبيعون ويشترون يعرفون الكيل والوزن.
وهذه بعض الأمثلة التي تبين كيف أن هذه الآية هي عامة في جميع الحقوق:
• رجل استأجر أجيراً فاستوفى الحق منه تاماً، لكنه لم يعطه الأجرة كاملة ، هل يكون مثل الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون؟ الجواب: نعم. ولا فرق.
• موظفً يطلب الراتب كاملاً، لكنه لا يعطي الوظيفة حقها، يتأخر في المجيء، أو يتقدم في الخروج، أو يتلهى عن الشغل بما لا مصلحة للشغل فيه ، ولكنه يطلب الراتب كاملاً، هل يدخل في الآية؟ نعم؛ لأنه يطلب حقه كاملاً، ولكنه لا يعطي الحق الذي عليه كاملاً.
• المعاشرة والتعامل بين الزوجين: فقد رسم الله تعالى له خطة عادلة، قال تعالىوَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) والمعاشرة: هي مفاعلة من الطرفين، وعاشروهن: أي ليعاشر كل واحد منكم الآخر بالمعروف، فبعض الرجال يريد من الزوجة أن تعطيه حقه كاملاً، وهو قد بخسها حقها، إن طلبت حقها من المهر المترتب بذمته، أو طلبت حقها من النفقة ماطل بها أو منعها، وإن طلبت الذهاب إلى أهلها أو إلى أقاربها أو إلى صاحباتها بالمعروف قال لا، وهو يريد منها أن تعطيه حقه كاملاً، فهذا نقول له: إنك داخل في هذه الآية : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ).
• الحقوق بين الأصحاب :أيضاً يدخل فيها التطفيف، بعض الناس يريد من صاحبه أن يكون له مثل العسل، لكنه يعامل صاحبه بما هو مر كالحنظل، هل هذا تطفيف أو عدل؟ انه تطفيف، فإذا كنت تريد أن يعاملك صاحبك بالمعاملة الطيبة فعامله أيضاً بالمعاملة الطيبة؛ لأن له حقاً عليك ولك حق عليه، أما أن تريد أن يعاملك المعاملة الطيبة وأنت لا تعامله كذلك فإن هذا من التطفيف.
• التطفيف الحاصل بين المعلم وتلاميذه: أيضاً المعلم والتلاميذ بينهم حقوق، على التلاميذ أن يحسنوا معاملة المعلم، فيكونون أمامه بمنزلة المتلقي الذي يقبل ما يعطى له، كالعطشان أمام الساقي،يوقرونه ويحترمونه، هذا حق للمعلم على تلاميذه، كذلك العكس فالتلاميذ لهم حق على المعلم، فيجب عليه أن يسلك أقرب الطرق إلى إفهامهم، وأن يحضر الدرس قبل المجيء ، وأن يعاملهم بلطف، فإذا كان المعلم يريد من التلاميذ أن يكونوا له على أعلى ما يكون من الآداب وهو لا يتأدب معهم أيدخل في الآية؟ نعم يدخل في الآية.
• التطفيف بين الرعاة والرعية: وهذا أوسع وأعظم. كثير من الناس يريد من الرعاة أن يكونوا على أكمل ما يكون، لكنهم على أنقص ما يكون، أهذا عدل؟ لا والله ما هو بعدل، إن من حكمة الله عز وجل أن المولَّى - ولي الأمر- على حسب المولَّى عليه، إن صلح هذا صلح هذا، وإن فسد هذا فسد هذا، وفي الأثر: [كما تكونوا يولَّ عليكم] يعني: أن الله يولي على الناس على حسب حالهم، وهذا الأثر صحيح المعنى، اقرأ قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) أي: نجعل الظالم فوق الظالم، بماذا؟ (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) فإذا ظلمت الرعية بتركها لمنهج ربها سلط عليها الرعاة، وإذا صلحت الرعية صلح الرعاة، وكذلك العكس: إذا صلح الراعي بالتزامه أوامر الله صلحت الرعية، فليس من العدل أن نريد من الرعاة أن يكونوا كالخلفاء ونحن على العكس؟ إننا إذا فعلنا ذلك فنحن داخلون في قوله تعالى(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ).
• التطفيف الواقع في تقسيم الأشخاص: من الحيف والجور أن يتكلم الإنسان في شخص كعالم أو تاجر أو أي إنسان، ثم يذكر مساوئه التي قد يكون معذوراً فيها، ولا يذكر محاسنه، هل هذا من العدل؟ إذا أردت أن تقوِّم الشخص فلا بد أن تذكر محاسنه ومساوئه.
وبعد استعراض بعض الأمثلة من واقعنا العملي تبين الآيات جزاء من يفعل ذلك، فيحذرهم الله تعالى ويقول لهم: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ) الاستفهام هنا للتوبيخ، يوبخ هؤلاء، ويقول لهم: هل أنتم تؤمنون بأنكم ستبعثون يوم القيامة؟ نعم هم يقولون: سنبعث لهذا اليوم، لكنهم ينسونه عند حلول الشهوات، فهم في الحقوق ينسون أنهم يبعثون، وإلا لو أن الإنسان إذا حدثته نفسه أن يخل بواجب أو ينتهك محرماً تذَّكر يوم المعاد، فما أظن عاقلاً يؤمن بذلك إلا وكف نفسه عن المحرم، وألزمها بفعل الواجب ً، لكنها الغفلة والنسيان التي تستولي علينا حتى ننسى هذا اليوم العظيم.. (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) ما هذا اليوم؟ انه يوم القيامة، الذي يفسره قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) وذلك من شدة الهول وعظمه. (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقومون من قبورهم لرب العالمين، يقومون سراعاً يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً ) وقال عز وجل: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ) . قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنكم تحشرون حفاةً عراةً غرلاً بهماً) الحفاة: الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف، ولا ثياب، ، ولم يختتنوا ، يعود الإنسان ما نقص منه شيء كما قال عز وجل: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) وفي وصف ذلك اليوم العظيم يقول المقداد بن الأسود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول((تدني الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما )) قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه ، قال سليم بن عامر : فوالله ما أدري ما يعني بالميل ؟ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ .
اللهم أعنا على ذلك اليوم، الذي يفر فيه المرء من أقرب الناس إليه، قال الله تعالىفَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) ، أنت وأخوك في الدنيا تتآلفان، يأوي بعضكم إلى بعض، ويأنس بعضكم ببعض، وكذلك مع الأم والأب، ومع الصاحبة والابن، لكنَّ هؤلاء تفر منهم يوم القيامة، قال العلماء: معنى كونهم يفرون: أي خوفاً من أن يطالبوهم بالحقوق من ميراث وغيره ، فالأب يخشى أن يقول له ابنه: يا أبت إنك ضيعت تأديبي، وكذلك البقية يخشون أن يحتج هؤلاء عليهم بحقوق يطالبونهم بها يوم القيامة ؛ ولهذا وصفه الله هنا فقال: (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الناجين حين يقوم الناس لرب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.