موضوع: الشمائل النبوية (4) الأحد يناير 08, 2012 6:38 pm
الشمائل النبوية (4)
القسم الثالث عشر
تواضعه و لين جناحه - صلى الله عليه وسلم-
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ: (يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَك) فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا.(1) عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَبِي، وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (سَنَهْ سَنَهْ). قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزبَرَنِي أَبِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (دَعْهَا)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ.(2) إذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة ، وفي الفضائل راغبة، فإن اقترن بها علو الهمّة، ونبل الهدف كانت طيّبة الجنى، وارفة الظلال، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها! يقتات منها الصغير والكبير، ويأوي إليها القوي والضعيف، والغني والفقير. لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مع الناس تلك النفس الخيّرة، آيةً في اللين والتواضع، ومثلاً في السماحة واللطف، بالرغم من نفوذ سلطانه، وجلالة قدره، و انقيادهم لأمره، و توقيره و مهابته. بل إن طاعته و محبّته مقدّمة على النفس، والأهل، والمال، والعشيرة...!
توافيه تلك المرأة (وفي عقلها شيء) في بعض الطرق الضيقة، المصطفة من النخيل، المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالبًا(3)، و تسأله حاجتها، و ما ثمّ لولا ما آنسته من الحبيب - صلى الله عليه وسلم- من تمام التواضع والقرب من المستضعفين، ولينه في أيديهم، ومشيه في حوائجهم، وتشوقهِ إلى إرضائِهم، وسماعِ شَكواهُم، وقضاءِ شُؤونِهم . فيسعها النبي - صلى الله عليه وسلم- بعطفه المعروف، وتواضعه المألوف، ملبياً رغبتها بسخاوة نفس وتقدير: (يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَك) !!! فللّه لين ذاع في الناس صيته وخفض جناحٍٍ طوّق الوعر والسّهلا
و تأتيه جارية صغيرة هي : أمَة (بمفتوحة وخفَّة ميم) بنت خالد بن سَعيْد بن العَاصِ، تكنّى أم خالد (4)، و تقترب منه لترسم صورة أخرى رائعة من التواضع والعطف النبوي . نرى فيها النَّبي المربِّي - صلى الله عليه وسلم - وهديه القويم في رعاية الأطفال، وقربه من الصِّغَار، وتلقِّيهم بالبِشْر وسهولة الخلق.. والرحابة ... وشفقته على البنات خاصَّة ! ألا ترى إلى عظيم تقديره لأم خالد، واصطفائها من سائر القوم، وتشريفها بهديته، بعدما سأل الحضور من أصحابه عمن يستحقها، وسكتوا حيرة، فاستشرفوا لها، وكانت تلك الجارية هي الجديرة بها، قَالَ: (مَنْ تَرَوَنَ أَنْ نكْسُوَ هذه؟ فسكت القومُ، قَالَ: ائتوني بأمّ خالدٍ). إنه يدعوها بكنيتها، زيادة في إكرامها، والاهتمام بها، وجيء بها تحمل في -رواية– لحداثة سنِّها – (فَأَخَذَ الخَمِيْصَةَ – وهي كساء من خزٍّ أو صوف - بيده الشريفة فألبسه) إياها! وبالغ - عليه الصَّلاة والسلام - في العطف عليها، والإحسان إليها، والبِّر بها، (فَجَعَلَ يَمْسَحُ الأعلام – وهي ألوانها البارزة الصفراء أو الخضراء – بيده، ويقول مادحًا لها، مثنيًا على جمالها وروعتها هذا: (سَنَهْ سَنَهْ)، بمعنى حسن، وما قالها الحبيبُ - صلى الله عليه وسلم - بالحبشيَّة، وهو العربيُّ الفصيح! إلا محاكاة لُّلغة التي ألفتها منذ طفولتها، وتطييبًا لخاطرها، وطمعًا في إدخال السرور والبهجة إلى قلبها. ويَسْتمرُّ الحنانُ النبويُّ الدافئ ليحكي مشهدا مؤثِّرا من اللطف الغامر بتلك الصبية، دنت منه بعدما اطمأنّت لتواضعه ورحمته، ولفت نظرها خاتم النبوة البارز بين كتفيه (كزرِّ الحجلة)،، فَتَاقَتْ نفسُها إلى لمسه، فطفقت تلعب به، مما أثار حفيظة والدها الذي نهرها بقسوة، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (دعه)، فاستمرت تلهو به مرحًا مستأنسة برضى النبي - صلى الله عليه وسلم - مطمئنة إلى سماحته، ثم يختم اللقاء الطيب بدعواتٍ لها مباركةٍ، يرددها ثلاثًا، ويمتدُّ أثرها إلى أمد ذاك اللقاء بما يحويه من المعاني القيِّمة للتواضع وخفض الجناح، يمثل أنموذجًا من الدروس التربوية التي لها أكبر الأثر في بناء الشخصية العاطفية، وتربيتها على التواضع ودماثة الخلق على نحو أفضل.
الهوامش:
(1) رواه مسلم (2326) و البخاري (3786) وزاد بلفظ:" والذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ إِنَّكُم أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ)، مرَّتَيْن. (2) متفق عليه. (3) ينظر: لسان العرب (10/439)، مختار الصحاح (ص129)، الغريب لابن سلام (1/349)، الغريب للخطابي (1/729)، مشارق الأنوار (2/268)، النهاية في غريب الحديث (2/284)فتح الباري (9/416). (4) الاستيعاب (4/1790)، أسد الغابــة (6/325)، الإصابـة (7/506)، المغني في ضبط أسماء الرجال (ص26).
القسم الرابع عشر
عفّته و حياؤه - صلى الله عليه وسلم-
عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (دعه فإنّ الحياء من الإيمان).(1) عن أنس قال: (لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم- زينب أهدت له أم سليم حيسا في تور من حجارة، فقال أنس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" اذهب فادع لي من لقيت من المسلمين، فدعوت له من لقيت، فجعلوا يدخلون عليه فيأكلون ويخرجون، ووضع النبي - صلى الله عليه وسلم- يده على الطعام فدعا فيه، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ولم أدع أحدًا لقيته إلا دعوته، فأكلوا حتى شبعوا، وخرجوا، وبقي طائفة منهم فأطالوا عليه الحديث، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم- يستحيي منهم أن يقول لهم شيئا، فخرج وتركهم في البيت، فأنزل الله - عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ)، قال قتادة: غير متحينين طعامًا، (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا)، حتى بلغ: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)).(2) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها، حدثني محمد بن بشار حدثنا يحيى وبن مهدي قالا: حدثنا شعبة مثله، وإذا كره شيئا عرف في وجهه).(3) الحياء غذاء الروح، وحياة القلب، كما أن الغيث حياة الأرض، ورواؤها، وبهجتها. وعلى حسب حياة القلب تكون قوّة خلق الحياء، فكلّما كان القلب أحيا كان الحياء أتم، وقلة الحياء من موت القلب والروح .(4) و لمّا كان الحياء بهذه المنزلة العظيمة من حياة الإيمان في القلب، واقترانه به ودوامه فيه، كان النبي - صلى الله عليه وسلم- أعظم هذه الأمة حياءً، شهد له ربه – سبحانه- بهذه الصفة الكريمة في محكم تنزيله فقال: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ) [سورة الأحزاب : 53]. ومن تأمّل هذه الأحاديث الثابتة رأى كثرة حياء النبي - صلى الله عليه وسلم-، وأنه كان جامعا ًبين نوعي الحياء الغريزي والمكتسب. ففي الغريزي كان أشد من العذراء في خدرها، وأما المكتسب فقد كان في الذروة العليا منه. وكلا النوعين محمود، مطلوب، وسبب لزيادة الإيمان؛ لأنه يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب، ونية، وعلم، فهو من الإيمان، ولكونه باعثاً على أفعال البر، ومانعاً من المعاصي، ومُعْفَىً من الفواحش، وناهيا عن المنكرات، فلا يأتي منه إلا خير(5). و ترجمت لنا سيرته العطرة حقيقة ذلك الحياء، وتمكّنه من خلقه وسلوكه العملي، في مواقف شتى، منها زواجه من زينب بنت جحش -رضي الله عنها-. فقد كان - صلى الله عليه وسلم- حديث عهدٍ بأهله، والأضياف في بيته قد حضروا وليمته، وطعموا حتى شبعوا، وظلّوا مستأنسين بالحديث في غفلةٍ عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم- وتكدّره من طول بقائهم، و هو يستحي أن يواجههم بأمر الخروج من بيته، و الانفراد بعروسه! حمله الحياء على أن يترك أخصّ حقوق نفسه في ليلة البناء بأهله، والشوق إليهم، وتحمّل مشقة الحرج من أصحابه الذين أكرمهم بضيافته، والتناول من مائدته، على أن يصارحهم بما يجول في خاطره، وما يعتمل في نفسه؛ إيثاراً للحياء، وحرصاً على توفير الراحة والانبساط لهم. فتولّى الرحمن – سبحانه- أمره، ورفع عنه ما أهمّه، وأنزل قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، يصدع بما للنبي - صلى الله عليه وسلم- من الحقّ العظيم من الاحترام والتوقير، والآداب المتعّينة له على أصحابه و أمته. ويدعونا في الوقت نفسه إلى الاقتداء به، والتحلي بهذا الخلق الفاضل، فمن استحيا من الله – سبحانه- حق الحياء رأى نعمه وآلاءه، واستشعر إساءته وتقصيره، وبادر بالخيرات، وترك المنكرات، ومن استحيا من نفسه عفّها وصانها في الخلوات،ومن استحيا من الناس كف أذاه عنهم،وترك المجاهرة بالقبيح والسيئات(6).
الهوامش:
(1) صحيح البخاري (24)، و مسلم (36).
(2) هذا لفظ مسلم، صحيحه ج2/ص1052، وللحديث طرق في الصحيحين.
(3) متفق عليه صحيح البخاري (3369)، ومسلم (2320).
(4) ينظر: مدارج السالكين (2/259).
(5) ينظر: فتح الباري ( ج10/ص522)، وشرح النووي: ج2/ص5، أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- في القرآن والسنة (1/485).
(6) ينظر : أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص 243).
[size=25]القسم الخامس عشر
أمانته و وفاؤه - صلى الله عليه وسلم-
لئن كان خلق الأمانة والوفاء عظيماً في سائر الناس؛ لما له من الأثر الكبير في صلاح أمر الدنيا والدين، فإنه في أنبياء الله ورسله أعظم، وفي حقهم أوجب وألزم، فطرهم الله ورباهم عليها ليتمكّنوا من تبليغ رسالاته إلى خلقه، وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- في الذروة العليا من هذه الأخلاق والسجايا الكريمة، وكماله فيها فاق كل كمال. لقد نشأ يتيماً مطبوعاً على الأمانة والوفاء بالعهد، فلا يكاد يعرف في قومه إلا بالأمين، فيقولون:جاء الأمين، وذهب الأمين، وحلّ في نفوسهم وقلوبهم أعلى منازل الثقة والرضى!!(1) كما دلّ على ذلك احتكامهم إليه في الجاهلية في قصة رفع الحجر الأسود عند بنائهم الكعبة المشرفة، بعد تنازعهم في استحقاق شرف رفعه ووضعه في محله، حتى كادوا يقتتلون، لولا اتفاقهم على تحكيم أول داخل يدخل المسجد الحرام، فكان هو محمد - صلى الله عليه وسلم- فلما رأوه قالوا: (هذا الأمين، رضينا هذا محمد)(2). و بلغ من ثقتهم الكبيرة في أمانته ووفائه ما اعتادوا عليه من حفظ أموالهم ونفائس مدّخراتهم لتكون وديعة عنده، ولم يزل هذا شأنهم حتى بعد معاداته بسبب نبوّته، ودعوتهم إلى الإيمان، ونبذ عبادة الأوثان، فلم يخالجهم الشك في أمانته و وفائه! ومما يدل على ذلك ترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمكة بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم- ليرد للناس ودائعهم التي كانت عنده، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم-.(3) ولقد تحقق ذلك الخلق العظيم بأتمّ معانيه، وأحسن مراميه بعد نبوّته - صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله تعالى أراده خاتماً لأنبيائه ورسله إلى الناس كافة، و لا يُمكّن من ذلك إلا أمين كامل الأمانة، يحظى بثقة الناس فيستجيبون له ويؤمنون به. و أدّى نبينا - صلى الله عليه وسلم- شرع ربنا - تبارك وتعالى- كما أراده الله - عزّ وجل-، وبلّغ آياته فلم يكتم منها حرفاً، وإن كان عتاباً له ولوماً، وشهد له في كتابه بهذا البلاغ الكامل حتى تمّ الدين، وظهر الإسلام قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) [سورة المائدة:3]. و إن من المواقف العظيمة في أمانته ما رواه سعد -رضي الله عنه- قال لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله) فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)(4). و أما الوفاء فله منزلة عظيمة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم-، فكان أوفى الناس مع ربه - تبارك و تعالى-، و مع أصحابه، وأزواجه، وذويه، بل وأعدائه!. و من أروع المواقف النبوية التي تتجسد فيها هذه السجية الفاضلة ؛ وفاؤه لحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- مع فعلته الكبرى، وهي إفشاؤه لسر النبي - صلى الله عليه وسلم- في أشد المواقف خطورة، موقف الغزو الذي لا تغفر البشرية لمثله؛ لأنه تجسس وخان خيانة عظمى. فقد كتب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إليهم بجيشه لفتح مكة، وأرسله خفية مع ظعينة له، فلما أطلع الله - تعالى- نبيه - صلى الله عليه وسلم- على ذلك، ومكّنه من إحباطه، وراوده بعض أصحابه على ضرب عنقه، قال - صلى الله عليه وسلم-: (إنه قد شهد بدراً، و ما يدريك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) (5). فانظر إلى مبلغ وفائه لأصحابه! وإن عظمت زلّة أحدهم، أو كبر خطؤه، ما لم يكن في حدّ من حدود الله – سبحانه-، أو تهاون بشرعه، و أمكن تدارك الخطر قبل وقوعه. و لاشك أن هذا الوفاء الفريد، والتصرف الرشيد، سيعزز حبّ ذلك الصحابي للتوبة النصوح من هذا الذنب الذي لا يبرره خوفه على أهله وذويه في مكة. وهكذا كانت شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم- حقائق عملية في مواقف الحياة المتنوعة، تربي النفوس وتهذبها على معاني الفضيلة، وتغرس في القلوب روائع الإيمان بالله - عزّ وجلّ-.
(1) انظر هذه المقالة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- للدكتور/ أحمد الحداد (2/538ـ 574) نقلتها باختصار.
(2) سيرة ابن هشام (1/28)، وطبقات ابن سعد (1/146).
(3) سيرة ابن هشام (2/237).
(4) رواه أبو داود (4359)، و الحاكم ( 4360)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
(5) رواه البخاري (5/184)، ومسلم ( 2494).
القسم السادس عشر
كرمه وسخاؤه صلى الله عليه وسلم
عن موسى بن أنس عن أبيه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، قال فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين" فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة.(1) وعن شهاب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح فتح مكة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين فنصر الله دينه والمسلمين وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة. قال بن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.(2) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا"(3) لئن كان الكرم جامعاً لمكارم الأخلاق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ليتمم مكارم الأخلاق قد بلغ فيه منزلة الكمال والعظمة، وقد شهد له ربه سبحانه بعظمة خلقه عموماً، وبالكرم خصوصاً فقال تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)(4) وقال سبحانه: (إنه لقول رسول كريم)(5). وصفه في هذه الآية بالكرم خاصة دون غيره من الأخلاق العظيمة التي أثبتها له سبحانه لأثر الكرم على سائرها، وأنها مندرجة تحته، تابعة له.(6) لقد منح النبي صلى الله عليه وسلم من السخاء والجود حتى جاد بكل موجود، وأثر غيره بكل مطلوب ومحبوب، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي على أصع من شعير! وقد حكم جزيرة العرب، وكان فيها من قبل ملوك لهم خزائن وأموال، يقتنونها ذخراً ويتباهون بها فخراً، ويستمتعون بها شراً وبطراً. وحاز صلى الله عليه وسلم ملك جميعهم، فما اقتنى ديناراً ولا درهماً، يعطي الجزيل الخطير، ويصل الجم الغفير، ويتجرّع مرارة الإقلال، ويصبر على سغب الاختلال، وعنده غنائم هوازن وهي من السبي ستة آلاف رأس، ومن الإبل أربعة وعشرون ألف بعير، ومن الغنم أربعون ألف شاة، ومن الفضة أربعة آلاف أوقية، فجاد بجميع حقه، وعاد خلواً، فهل لمثل هذا الكرم والجود كرماً وجوداً؟! هيهات.(7) ولذا كان سخاء النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضاً عند أصحابه، نقلوه لنا حتى بلغ حدّ التواتر، وتمّ لهذه الدلائل الخبرية شواهد عمليّة ثابتة في سائر أحواله تجلي لنا حقيقة الكرم النبوي الفريد الذي لا يباري في مضماره، ولا يجارى في ميدانه، ولا يراد به الرياء والشهرة والصيت! دهش لكرمه ذاك الرجل حين أتاه، إذ فاق نوال النبي صلى الله عليه وسلم آماله التي عقدها على كرام الناس، حين أعطاه الكريم صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين، لم يحسب عدد رؤوسها عليه!. فانبهر لسخائه العظيم وهرع لقومه فرحاً مستبشراً بهذا الرزق الواسع الذي غمره بلا أدنى عناء وهو يقول: يا قوم أسلموا فإن محمد يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة. إيهٍ وربي، أيخشى الفاقة من اتصل قلبه بمولاه تعالى، وتعلق فؤاده بمالك الملك جلّ جلاله، فكان يقينه بما في يده سبحانه من خزائن السماوات والأرض، أعظم مما في يده، ورجاؤه بما لديه سبحانه من النعيم المقيم في الجنة أعلى وأغلى مما يراه من متاع الدنيا!. لقد هانت عنده لذة الدنيا وزينتها، فأعطى وأهدى وتصدّق في وجوه الخير والبر، وبلغ من كرمه أن لا يرد سائلاً ما طلبه، بل يعطي تفضلاً بلا سؤال ولا يتبعه بالمنّ والأذى، عطاءً سمحت به نفسه، وجادت به يمينه، ورضيه بلا تردد، ناسباً الفضل كله لله وحده وأنه مجرد قاسم بين الناس حظوظهم.
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه * ثناها لقبض لم تجبه أنامله هو البحر من أي النواحي أتيته * فلجّته المعروف والجود ساحله ولو لم يكن في كفه غير روحه * لجاد بها فليتق الله سائله(
فلا تعجب أن كان جديراً بأن يحضى بمودّة الناس وإعجابهم، وامتلاء قلوبهم من حبّه كما ملأ أيديهم من جوده، قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ . وظلّ عطاؤه للمؤلفة قلوبهم في أول الأمر طمعاً في إسلامهم، قال أنس رضي الله عنه: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.(9) ومن هنا نرى أثر النيّة الصالحة في طرح البركة في العطاء، والهبة، والصدقة، كم تثمر من الآثار الطيبة، والمعاني الخيّرة والأجور المدّخرة التي لا تبلغها لولا الإخلاص لله تعالى، وابتغاء مرضاته.
الهوامش:
(1) صحيح مسلم ج4، ص1806. (2) صحيح مسلم ج4، ص1806. (3) صحيح مسلم ج4، ص1805. (4) سورة القلم: 4. (5) سورة الحاقة: 40. (6) أنظر في هذا الموضوع: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (2/647). (7) أعلام النبوة للماوردي (ص302). ( عزاه بن رجب في لطائف المعارف (ص195) لبعض الشعراء يمدح بها، قال: وما تصلح إلا أن تكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (9) شرح النووي (15/72).