السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة أبي طالب في الهجرة ووصيته للنبي صلى الله عليه وسلم
بقلم : علي حشيش
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف
على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت وانتشرت في كتب التفاسير بل وجعلت هذه
القصة من أسباب نزول الآية (30: الأنفال) في حدث الهجرة، وهذه القصة تضاف
إلى سلسلة القصص الواهية حول الهجرة والتي سبق تقديم البحوث العلمية
الحديثية حولها:
1- قصة "ثعبان الغار" عدد جمادى الأولى 1421ه رقم (1).
2- قصة "عنكبوت الغار والحمامتين" عدد محرم 1422ه رقم (6).
3- قصة "غناء بنات النجار" عدد محرم 1423ه رقم (18).
4- قصة "لطم أبي جهل لأسماء بنت أبي بكر في الهجرة" عدد محرم 1424ه رقم (29).
وإلى القارئ الكريم هذه القصة الواهية قصة أبي طالب في الهجرة ووصيته النبي صلى الله عليه وسلم .
أولاً: متن القصة
قال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر به قومك؟
قال: يريدون أن يسجنوني ويقتلوني ويخرجوني فقال من أخبرك بهذا؟
قال ربي - قال نعم الرب ربك - فاستوص به خيرًا- فقال رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي خيرًا- فنزلت: وإذ يمكر بك الذين
كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك {الأنفال: 30}.
قلت: هذا لفظ رواية شيخ المفسرين ابن جرير الطبري واستيفاءً لمتن هذه القصة
نبين للقارئ متن القصة بلفظ رواية ابن أبي حاتم حيث جاء فيه: أن أبا طالب
قال للنبي صلى الله عليه وسلم : هل تدري ما ائتمر فيه قومك؟ قال: نعم
ائتمروا أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من أخبرك هذا ؟ قال: ربي،
قال: نعم الرب ربك فاستوصِ به خيرًا. قال: أنا أستوصي به أو يستوصي بي؟
ثانيًا: التخريج
القصة أخرجها شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في "تفسيره" المسمى "جامع
البيان في تأويل القرآن" (6-251 ط دار الغد) (ح15977) (ح15978)، وابن أبي
حاتم في "تفسيره" (5-1688) (ح8998).
فائدة:
حتى لا يتقول علينا متقول ويتوهم الصحة من إخراج شيخ المفسرين ابن جرير
للقصة وابن أبي حاتم وسكوتهما عنها، ولكن هيهات، فالقاعدة: "من أسند فقد
أحال"، وبالتحقيق يستبين لك الحال.
ثالثًا: التحقيق
القصة واهية، والحديث منكر، ومعلل متنًا وسندًا، يظهر ذلك بجمع طرق الحديث الذي جاءت به هذه القصة.
1- قال ابن جرير الطبري (ح15977): حدثني محمد بن إسماعيل البصري المعروف
بالوساوسي قال: حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد
بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ما يأتمر به قومك.. القصة".
2- وقال ابن جرير (ح15978): حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: حدثني
حجاج قال: قال ابن جريج قال عطاء سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا
بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه قال له أبو طالب هل
تدري ما ائتمروا بك؟.. القصة.
تحقيق الطريقين
1- قلت: الطريق الأول سنده تالف فيه عبدالمجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد
قال فيه ابن حبان في "المجروحين" (2-160): "منكر الحديث جدّا، يقلب الأخبار
ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك".
وعلة أخرى: تدليس ابن جريج حيث أورده الحافظ ابن حجر في "طبقات المدلسين"،
وهذه الطبقة قال فيها الحافظ: "الثالثة: من أكثر من التدليس فلم يحتج
الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقًا".
ولذلك قال الحافظ ابن حجر: "ابن جريج وصفه النسائي وغيره بالتدليس، قال
الدارقطني: شر التدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه
من مجروح". اه.
2- قلت: فإن قيل في الطريق الثاني متابعة لعبد المجيد في روايته عن ابن
جريج حيث تابعه حجاج فهي متابعة أوهن من بيت العنكبوت، للعلل الآتية:
أ- أورد الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (6-359) عن جعفر بن عبد الواحد عن
يحيى بن سعيد، إذا قال ابن جريج: حدثني فهو سماع وإذا قال: أخبرني فهو
قراءة، وإذا قال: قال فهو شبه الريح". اه.
قلت: وفي هذا الطريق (قال ابن جريج: قال عطاء) إذن فهو شبه الريح.
ب- والحديث من هذا الطريق مرسل عن عبيد بن عمير ولم يوجد الصحابي المطلب بن أبي وداعة.
ج- وهناك انقطاع في السند "حجاج، قال ابن جريج".
3- وفي رواية ابن أبي حاتم متابعة أخرى لعبد المجيد في روايته عن ابن جريج
حيث تابعه هشام بن يوسف فهي متابعة واهية وإن صرح بالتحديث لابن جريج حيث
إن الحديث مرسل من هذا الطريق أيضًا: (عن عبيد بن عمير أن أبا طالب قال
للنبي صلى الله عليه وسلم .
ولذلك ترجم ابن أبي حاتم للمطلب بن أبي وداعة في "الجرح والتعديل"
(4-1-358) ترجمة (1641) قال: "المطلب بن أبي وداعة له صحبة". ولم يذكر
لعبيد بن عمير رواية عنه.
قلت: كذلك الإمام المزِّي في "تهذيب الكمال" (18-152-6600) ترجم له ولم يذكر لعبيد بن عمير رواية عنه.
فالحديث معلل والقصة واهية، ولقد بيَّنا الطريق إلى معرفتها بجمع طرق القصة
والنظر في اختلاف الرواة، ولكن لا يمكن الموازنة بين ضبطهم وإتقانهم للحكم
على الرواية المعلولة، حيث لا ضبط ولا إتقان في جميع الروايات؛ لأن هناك
علة في "المتن" في جميع الروايات.
رابعًا: علة المتن
قال الإمام ابن القيم في "المنار المنيف" (ص111): "ونحن ننبه على أمور كلية
يعرف بها كون الحديث موضوعًا"، فمنها (19): "ما يقترن بالحديث من القرائن
التي يُعلم بها أنه باطل".
قلت: بتطبيق هذه القاعدة على هذه القصة نجد أن هناك قرينة تدل على أن القصة
باطلة، ولقد أورد هذه القصة الإمام ابن كثير في "تفسيره" (2-302) عند
تفسير الآية (30: الأنفال) من رواية ابن جريج ثم بيَّن الحافظ ابن كثير علة
القصة متنًا فقال: "وذِكر أبي طالب في هذا غريب جدّا بل منكر ؛ لأن هذه
الآية مدنية، ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على
الإثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة سواء، وكان ذلك بعد موت
أبي طالب بنحو ثلاث سنين، لمّا تمكنوا منه واجترؤا عليه بسبب موت عمه أبي
طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه".
خامسًا: التصحيف
فائدة: عند البحث في "تفسير ابن كثير" وجدنا أن الإمام ابن كثير عزا القصة
إلى تفسير ابن جرير وبالاطلاع على سند ابن جرير في أكثر طبعات ابن كثير مثل
طبعة دار إحياء الكتب العربية (البابي الحلبي) وطبعة دار والي المكتوب
عليها طبعة جديدة - مضبوطة، محققة- معتنى بإخراجها أصح الطبعات وأكثرها
شمولاً. اه. وجدت بالاطلاع أن السند فيه تصحيف يؤدي إلى فساد البحث في
رجاله.
وإلى القارئ الكريم هذا السند في الطبعات التي يزعم أصحابها أنها أصح الطبعات وأنها مضبوطة ومحققة:
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي،
أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن
المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال (فذكر القصة).
قلت: بالمقارنة بين هذا السند الذي في طبعات ابن كثير لرواية ابن جرير وبين الأصل وهو تفسير ابن جرير نجد:
1- أن شيخ ابن جرير وهو محمد بن إسماعيل البصري الوساوسي صُحِّف إلى محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي.
2- وشيخ ابن جريج وهو عبد المجيد بن أبي رواد حدث له تصحيف إلى عبد الحميد بن أبي داود.
قلت: وهذا أمر خطير يجب أن يتنبه إليه من يريد البحث فلا يعتمد على التخريج
بالواسطة، بل يجب عليه الرجوع إلى الأصل كما بينا في عدد رمضان في هذا
العام وبراءة أبي الدرداء من الذكر البدعي وكان ظاهر السند الصحة في تفسير
ابن كثير ولكنه في الحقيقة به تصحيف بكشفه تبين أن القصة واهية وأقصد بقولي
"الرجوع إلى الأصل" أي: الأصول التي عزا إليها ابن كثير الأحاديث، ففي هذه
القصة: قصة أبي طالب في الهجرة عزاها إلى ابن جريج في "تفسيره" وفي رمضان
قصة أبي الدرداء عزاها إلى عبد الرزاق في تفسيره، وأسال الله أن يوفقنا
لتحقيق أسانيد تفسير ابن كثير بالمقارنة بالأصول، ثم الحكم على المسند، ثم
الحكم على الحديث بعد الاعتبار لمعرفة المتابعات والشواهد وكشف العلل.
سادسًا: بدائل صحيحة للهجرة:
لقد بوّب الإمام البخاري في "الصحيح" في كتاب المناقب بابًا بعنوان: باب
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وهو باب رقم (45).
1- فذكر قصة الهجرة من حديث عائشة حديث رقم (3905).
3- ثم قصة الهجرة من حديث سُراقة بن جُعْشم وهو حديث رقم (3906).
4- ثم قصة الهجرة من حديث البراء بن مالك عن أبي بكر (ح3908)، (3917) (5607)، ومسلم في صحيحه (3214)، وأحمد في مسنده الحديث رقم (3).
5- ثم قصة مَقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة (ح3924، 3925) من صحيح البخاري، وكذلك (ح3929).
هذه من البدائل الصحيحة التي يجب أن يرجع إليها الداعية، بعد تحذيره من القصص الواهية.
وأختم هذا التحذير بما أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" (ح109) من حديث
سلمة بن الأكوع: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يقل عليَّ ما لم
أقل فليتبوأ مقعده من النار".
هذا ما وفقني الله وهو وحده من وراء القصد.