السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة المظاهرة التي قادها حمزة وعمر رضي الله عنهما
بقلم : علي حشيش
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف
على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت واتخذها أصحاب المظاهرات دليلاً على
مشروعيتها.
أولاً: متن القصة
رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "شرح الله صدري للإسلام، فقلت:
الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، فما في الأرض نسمة أحب إليَّ من
نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت: أين رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم ؟ قالت أختي: هو في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا، فأتيت الدار
وحمزة في أصحابه جلوس في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت،
فضربت الباب فاستجمع القوم جلوسًا في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
في البيت، فضربت الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر،
قال: فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخذ بمجامع ثيابه ثم نثره نثرة
فما تمالك أن وقع على ركبته، فقال: "ما أنت بمنته يا عمر؟".
فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد. فقلت: يا رسول الله،
ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده إنكم على
الحق إن متم وإن حييتم". فقلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن
فأخرجنا في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر لنا كديد ككديد الطحين حتى
دخلنا المسجد، فنظرتْ إليَّ قريش وإلى حمزة فأصابتهم كأبة لم يصبهم مثلها.
ثانيًا: التخريج
القصة أخرجها أبو نعيم في "الحلية" (1-40) قال: حدثنا محمد بن أحمد بن
الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبد الحميد بن صالح، حدثنا
محمد بن أبان عن إسحاق بن عبد الله عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس
عن عمر بن الخطاب به.
قلت: وبهذا السند أخرجها أبو نعيم في "الدلائل" (194).
ثالثًا: التحقيق:
هذه القصة واهية وعلتها: "إسحاق بن عبد الله".
1- أوردها الإمام المزي في "تهذيب الكمال" (2-57-362) وقال: "إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة روى عن أبان بن صالح". اه.
2- قال الإمام النسائي في "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (50): "متروك الحديث".
قلت: وهذا المصطلح له معناه حيث قال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة" (ص69):
"مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه". اه.
3- قال الإمام البخاري في "الضعفاء الكبير" ترجمة (20): "إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: تركوه".
4- قال الإمام الدارقطني في "الضعفاء والمتروكين" رقم (94): "متروك". اه.
5- وقال علي بن الحسن الهسنجاني، عن يحيى: كذاب. كذا في "تهذيب الكمال" (2-61).
6- وقال ابن حبان في "المجروحين" (1-131): "كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل وكان أحمد بن حنبل ينهى عن حديثه".
7- قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2-228) رقم (792): "سمعت أبي يقول: إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة: متروك الحديث".
ثم أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن يحيى بن معين قال: "إسحاق بن أبي فروة
كذاب". وبسند آخر عن يحيى أنه قال: "إسحاق بن أبي فروة لا شيء كذاب".
ثم قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زُرْعة يقول: "إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ذاهب الحديث متروك الحديث".
ثم أخرج ابن أبي حاتم بسنده إلى عمرو بن علي الصيرفي أنه حدثه "بأن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك الحديث".
8- قلت: ولقد بين هذا الترك ابن عدي في "الكامل" (1-326) (154-154) في
ترجمة بلغت أكثر من ثمانين سطرًا ختمها قائلاً: "وإسحاق بن أبي فروة هذا ما
ذكرت هاهنا من أخباره بالأسانيد التي ذكرت فلا يتابعه أحد على أسانيده،
ولا على متونه، وسائر أحاديثه مما لم أذكره تشبه هذه الأخبار التي ذكرتها
وهو بيّن الأمر في الضعفاء". اه.
قلت: بهذا التحقيق يتبين الآتي:
1- أن مذهب النسائي لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه.
2- تبين حقيقة أخبار إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة فلا يتابعه أحد على أسانيده ولا على متونه.
3- وعلى هذا تكون القصة واهية وسندها تالف والخبر موضوع.
رابعًا: "قرائن تدل على عدم صحة القصة":
1- لقد بوَّب الإمام البخاري في "صحيحه" في كتاب "مناقب الأنصار" بابًا
برقم (35): "إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه" وتحت هذه الترجمة أخرج حديث
(3865) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "لما أسلم عمر، اجتمع
الناس عند داره وقالوا: صبأ عمر- وأنا غلام فوق ظهر بيتي- فجاء رجل عليه
قباء من ديباج، فقال: قد صبأ عمر، فما ذاك فأنا له جار؟. قال: فرأيت الناس
تصدعوا عنه، فقلت: من هذا؟ فقالوا: العاص بن وائل".
2- وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3-81) في إسلام عمر بن
الخطاب: قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال: لما أسلم
عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه.
قال عبد الله: وغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت،
حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله
عليه وسلم ؟
قال: فوالله، ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر، واتبعته أنا، حتى
إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول
الكعبة، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ.
قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت، وشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدًا رسول الله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس
على رؤوسهم. قال: وطَلَح فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا
لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها
لنا.
قال: فبينما هم على ذلك؛ إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟
فقالوا: صبأ عمر. قال: فمه؛ رجل اختار لنفسه أمرًا، فماذا تريدون؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبكم هكذا؟ خلوا عن الرجل.
قال: فوالله، لكأنما كانوا ثوبًا كُشِطَ عنه.
قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، من الرجل الذي زَجَرَ القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟
قال: ذاك أي بني، العاص بن وائل السهمي.
وهذا إسناد جيد قوي، وهو يدل على تأخر إسلام عمر؛ لأن ابن عمر عرض يوم أحد
وهو ابن أربع عشرة سنة، وكانت أُحد في سنة ثلاث من الهجرة، وقد كان مميزًا
يوم أسلم أبوه، فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين، وذلك بعد
البعثة بنحو تسع سنين. والله أعلم.
قلت: وأورد هذه القصة أيضًا الحافظ ابن كثير في كتاب "السيرة النبوية"
نقلاً عن ابن إسحاق ثم ذكر هذا التحقيق، وكذا ابن هشام في "السيرة النبوية"
(1-437) (ح334) نقلاً أيضًا عن ابن إسحاق، وكذا ابن الأثير في "أسد
الغابة" (4-150) نقلاً عن ابن إسحاق، وأخرجه الحاكم (3/85) من طريق ابن
إسحاق، وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي وكما بينا آنفًا قال ابن
كثير: "وهذا إسناد جيد قوي".
قلت: ويزداد قوة بأن البخاري أخرجه (ح3864) من طريق أخرى عن زيد بن عبد
الله بن عمر عن أبيه قال: "بينما هو- يعني عمر في الدار خائفًا..." الحديث
بلفظه كما بينا آنفًا.
خامسًا: "الصبر والثبات في الشدة- لا المظاهرات":
أخرج البخاري في "صحيحه" (ح3852) من حديث خباب بن الأرت قال: "أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة- وقد لقينا من
المشركين شدة- فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه،
فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب،
ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه
ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت
ما يخاف إلا الله".
قلت: وأخرج هذا الحديث أيضًا الإمام البخاري (ح3612) من حديث خباب وفيه قال
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "والله ليَتِمَّن هذا الأمُر حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم
تستعجلون". وفي الحديث (6943) "و" بدلاً من "أو".
قلت: هذا الحديث يبين لنا تربية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في
الشدائد على الصبر، والثبات واليقين في وعد الله وعدم الاستعجال عملاً بقول
الله تعالى: فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون {الروم:
60}. فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم {الأحقاف: 35}.
سادسًا: "الدعاء عند الشدائد لا المظاهرات":
1- أخرج الإمام البخاري في "صحيحه" (ح3854) من حديث عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه قال: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا وحوله ناس من قريش،
جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم
فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره ودعت على من صنع،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم عليك الملأ من قريش، أبا جهل بن
هشام، وعتبة بن أبي ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، فرأيتهم قتلى يوم
أحد فألقوا في بئر غير أمية بن خلف تقطعت أوصاله فلم يلقى فى البئر".
رعل وذَكوان ولِحْيان وعُصية عصت الله. قال أنس: أنزل الله في الذين قتلوا
ببئر معونة قرآنًا قرأناه حتى نُسِخَ بعد أن بلَّغوا قوْمنا أن قد لقينا
ربنا فرضي عنا ورضينا عنه. اه.
سابعًا: النفير لا المظاهرات
أخرج البخاري في "صحيحه" (ح3077) ومسلم (ح1353) من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: لا هجرة بعد الفتح
ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا.
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله
اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا
في الآخرة إلا قليل {التوبة: 38}.
وقال: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير {التوبة: 39}.
قلت: هذه هي السنة عند الشدائد: الصبر والثبات واليقين وعدم الاستعجال،
خاصة في حالة الاستضعاف، ثم النفير في حالة تجميع الأمة وإعداد ما استطاعت
من قوة والدعاء في الحالين.
أما المظاهرت فما هي إلا جعجعة. قال صاحب "مختار الصحاح" (ص105): "الجعجعة
صوت الرحى، وفي المثل أسمع جعجعة ولا أرى طِحْنا بكسر الطاء أي دقيقًا".
اه.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.