السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة مفتاح الكعبة ونزول آية الأمانات
إعداد - علي حشيش
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف
على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة كثير من الوعاظ والخطباء
والقصاص، وقد ذكرت هذه القصة في كتب التفسير على أنها سبب في نزول الآية:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
{النساء: 58}
أولاً: متن القصة:
لما فتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه
قال: "أرني المفتاح". فأتاه به، فلما بسط يده إليه، قام العباس فقال: يا
رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فكف عثمان يده، فقال رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم : "هات المفتاح يا عثمان".
فقال: هاك أمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه
جبريل بردّ المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال: إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها حتى فرغ من الآية.
ثانيًا: "التخريج":
القصة أخرجها ابن مردويه كما في "لباب النقول في أسباب النزول" (ص71)
للإمام السيوطي، وكذا في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (2-174) وفي
"تفسير ابن كثير" (2-207).
من طريق ال***ي عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله عز وجل: إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، قال: لما فتح رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم مكة... القصة.
ثالثًا: التحقيق:
القصة: واهية والخبر الذي جاءت به القصة "موضوع".
وبه علتان:
الأولى: ال***ي.
1- وال***ي أورده الإمام الحافظ ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (7-207) (3-2-1478) وقال:
محمد بن السائب ال***ي أبو النَّضْر، وهو ابن السائب بن بشر بن عيدود، روى عن أبي صالح باذام، وروى عنه ابن جريج".
2- ثم أخرج بسنده عن سفيان الثوري قال: "قال لنا ال***ي: ما حُدِّثْتَ عني، عن أبي صالح عن ابن عباس فهو كذب فلا تَرْوِهِ". اه.
وسند هذه القصة كما هو مبين آنفًا من طريق: ال***ي عن أبي صالح عن ابن عباس.
بالمقارنة بين التخريجين: تخريج القصة وبيان طريقها، وتخريج قول سفيان الثوري في هذا الطريق في "الجرح والتعديل".
نستنتج أن القصة مكذوبة.
3- ثم أخرج عن مروان بن محمد قال: "تفسير ال***ي باطل".
4- وأخرج عن يحيى بن معين قال: "ال***ي ليس بشيء".
5- ثم قال: "سألت أبي عن محمد بن السائب ال***ي فقال: الناس مجتمعون على ترك حديثه لا يشتغل به هو ذاهب الحديث". اه.
ومما يدل على الإجماع على ترك حديث ال***ي:
1- قال الإمام النسائي في كتاب: "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (514): "محمد بن السائب أبو النضر ال***ي: متروك الحديث. كوفي".
وهذا المصطلح عند النسائي له معناه يتبين ذلك من قول الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة" (ص69):
"كان مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه". اه.
2- وأورده الإمام الدارقطني في كتاب "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (468) وقال: "محمد بن السائب ال***ي".
ولم يذكر شيئًا سوى ذكر الاسم فقد يتوهم واهم ممن لا دراية له بهذا الفن أن الإمام الدارقطني سكت عنه.
وإلى القارئ الكريم بيان القاعدة التي بنى عليها كتاب "الضعفاء والمتروكين" للإمام الدارقطني:
قال الإمام البرقاني في مقدمة كتاب "الضعفاء والمتروكين" للدارقطني: "طالت
محاورتي مع أبي منصور إبراهيم بن الحسين بن حمكان، لأبي الحسن علي بن عمر
الدارقطني- عفا الله عني وعنهما- في المتروكين من أصحاب الحديث، فتقرّر
بيننا وبينه على ترك من أثبته على حروف المعجم في هذه الورقات". اه.
ولقد أثبت محمد بن السائب ال***ي كما بينا آنفًا فهو ممن تقرر عند الأئمة الثلاثة تركه بمجرد إثبات اسمه في الكتاب.
3- وأورده ابن عدي في "الكامل" (6-114) (5-1626) وقال: "سمعت محمد بن سعيد
الحراني يقول: سمعت عبد الحميد بن هشام يقول: سمعت عبد الجبار بن محمد
الخطابي يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: قال
ال***ي: "كل شيء أحدث عن أبي صالح فهو كذب".
4- وأورده الإمام العقيلي في "الضعفاء الكبير" (4-78-1632) وقال: حدثنا
محمد بن أيوب، حدثنا عمرو بن الحصين، حدثنا معمر بن سليمان، عن ليث، قال:
"بالكوفة كذابان: ال***ي، والسدي". اه.
ثم قال العقيلي: حدثني آدم، قال: سمعت البخاري، يقول: محمد بن السائب ال***ي كوفي تركه يحيى بن سعيد، وابن مهدي.
5- وبالرجوع إلى البخاري في كتاب "التاريخ الكبير" (1-1-101) قال: "محمد بن السائب أبو النضر ال***ي تركه يحيى بن سعيد وابن مهدي".
6- أورده الإمام الذهبي في "الميزان" (3-556-7574) وقال: "محمد بن السائب
ال***ي أبو النضر الكوفي المفسر النسابة الأخباري ثم نقل عنه أنه حفظ
القرآن في سبعة أيام.
ثم نقل عن أحمد بن زهير: أنه قال للإمام أحمد بن حنبل: يحل النظر في تفسير ال***ي؟ قال: لا".
ثم قال الذهبي: "وقال الجوزجاني وغيره: كذاب". اه.
هذا وليفرق القارئ الكريم بين الحفظ، والتفسير، والتحديث.
وفيما ذكرناه بيان للعلة الأولى، وتفصيل للإجماع الذي ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه في ترك ال***ي.
العلة الثانية: أبو صالح.
1- قلت: ولتحديد الراوي صاحب هذه الكنية رجعنا إلى كتاب "الكنى والأسماء"
للإمام مسلم بن الحجاج (1-434) حرف الصاد باب أبو صالح فوجدنا هذه الكنية
خمسة وثلاثين راويا من (1635) إلى (1669) ولما كان سند القصة من طريق
ال***ي عن أبي صالح عن ابن عباس كان تحديد الراوي الذي كنيته "أبو صالح"
مرتبطًا بمن روى عنه أبو صالح وبمن روى عن أبي صالح.
فأبو صالح في هذه القصة روى عن ابن عباس، وال***ي روى عن أبي صالح، وبتطبيق
هذا على الرواة الخمسة والثلاثين أصحاب هذه الكنية نجد ذلك ينطبق على
الراوي (1642) حيث قال الإمام مسلم: "أبو صالح باذام مولى أم هانئ عن علي
وابن عباس وأم هانئ، روى عنه السدي وابن أبي خالد وال***ي". اه.
2- قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" (1-93): "باذام أبو صالح مولى أم هانئ ضعيف مدلس من الثالثة". اه.
3- أورده الإمام الذهبي في "الميزان" (1-296-1121): ونقل عن إسماعيل بن أبي خالد قوله: كان أبو صالح يكذب.
ونقل عن ابن معين قوله: إذا روى عنه ال***ي فليس بشيء، وقال عبد الحق في أحكامه: ضعيف جدا.
4- وأورده الإمام ابن حبان في كتابه "المجروحين" (2-255) في ترجمة ال***ي
حيث قال: "ال***ي هذا مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى
الإغراق في وصفه، يروي عن أبي صالح عن ابن عباس في التفسير، وأبو صالح لم
ير ابن عباس ولا سمع منه شيئًا، ولا سمع ال***ي من أبي صالح إلا الحرف بعد
الحرف فجعل لما احتيج إليه تخرج له الأرض أفلاذ أكبادها لا يحل ذكره في
الكتب فكيف الاحتجاج به". اه.
وهذا الذي ذكره ابن حبان، نقله الذهبي في "الميزان" وأقره وبهذه العلة تزداد القصة وهنًا على وهن.
رابعًا: طريق آخر للقصة:
أخرجه الإمام الطبري في "تفسيره" (4-162- ط دار الغد ) (ح9851) قال: حدثنا
القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي
طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، ودخل به البيت يوم
الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح قال: وقال
عمر بن الخطاب لما خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية،
فداه أبي وأمي ما سمعت يتلوها قبل ذلك. اه.
التحقيق
هذا طريق ضعيف جدا يزيد القصة وهنًا على وهن.
1- ابن جريج؛ قال الحافظ في "التقريب" (2-499): "هو عبد الملك بن عبد
العزيز بن جريج". ثم حدد طبقته في "التقريب" (1-520) قال: "كان يدلس ويرسل
من السادسة". ثم بين الطبقة السادسة في "المقدمة" قال: "السادسة: طبقة
عاصروا الخامسة لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة".
قال المناوي: "ومتى لم يلاقوا الصحابة لا يكونون من التابعين والأليق بهم أن يكونوا من طبقة أتباع التابعين". اه.
2- قلت: من هذا يتبين أن سند هذه القصة من هذا الطريق تالف سقطت منه
طبقتان: طبقة التابعين وطبقة الصحابة فالسقط هنا باثنين على الأقل مع
التوالي فهو معضل كذا في "شرح النخبة" (ص38).
انظر إلى القصة تجد ابن جريج قال قبض النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح
الكعبة من عثمان بن طلحة وابن جريج لم يكن صحابيّا ليسمع من النبي صلى الله
عليه وسلم ، ولم يكن تابعيّا ليسمع من الصحابي عثمان بن طلحة.
وهذا يتبين من قول الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (4-450-5444): "مات عثمان
بن طلحة بالمدينة سنة اثنتين وأربعين". وقول الحافظ في "التهذيب" (6-359).
"قال ابن سعد: وُلِدَ ابن جريج سنة ثمانين". اه.
قلت: فابن جريج ولد بعد موت الصحابي عثمان بن طلحة بأكثر من ثلاثين عامًا،
لذلك قال الإمام النووي في "التقريب" (2-349- تدريب ): "التواريخ والوفيات:
هو فن مهم به يعرف اتصال السند وانقطاعه، وقد ادعى قوم الرواية عن قوم
فنظر في التاريخ فظهر أنهم زعموا الرواية عنهم بعد وفاتهم بسنين". اه.
قال سفيان الثوري: "لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ". كذا في "التدريب" (2-350).
3- ولقد نقل الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (6-359) عن الدارقطني أنه قال:
"تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح".
ولقد بينت آنفًا أن ابن جريج روى عن محمد بن السائب ال***ي الكذاب المتروك،
وبيّن هذا أيضًا الإمام المزي في "تهذيب الكمال" (16-295-5823) ولما كانت
القصة في الطريق الأول عن ال***ي عن أبي صالح عن ابن عباس فقد يكون ابن
جريج سمع القصة من ال***ي عن أبي صالح عن ابن عباس، ولقد بينت أن سفيان
الثوري قال: "قال لنا ال***ي: ما حدثت عني، عن أبي صالح عن ابن عباس فهو
كذب فلا تروه". اه.
فقام ابن جريج بحذف السند لشدة ضعفه وبيان كذبه حتى ذكر السند معضلاً خاصة وأنه معروف بالتدليس القبيح والإرسال.
والمرسل عند المحدثين: ما سقط من آخر إسناده من بعد التابعي.
وعند الفقهاء والأصوليين أعم من ذلك فعندهم أن كل منقطع مرسل على أي وجه كان انقطاعه، وهذا مذهب الخطيب أيضًا.
وبهذا يتبين للقارئ أن هذا الطريق تالف لما به من سقط في الإسناد أسقطه ابن جريج حتى لا يظهر المجروحين وهو مشهور بالتدليس والإرسال.
ملاحظة هامة:
نقل الإمام القرطبي في "تفسيره" (2-1919) عن ابن جريج قوله: إن الله يأمركم
أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها قال: "ذلك خطاب للنبي خاصة في أمر مفتاح
الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة، وكان كافرًا وقت فتح مكة فطلبه العباس
بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية". القصة.
لقد بينت أن القصة واهية ولا تصح سببًا في نزول الآية ولكن هناك مسألتان:
الأولى: أن عثمان بن طلحة كان كافرًا وقت فتح مكة ولذلك طلبه العباس: وهذه
الفرية أوردها الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (4-450-5444) حيث قال: "وقد وقع
في تفسير الثعلبي، بغير سند في قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها- أن عثمان المذكور إنما أسلم يوم الفتح بعد أن دفع له
النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح البيت، وهذا منكر. والمعروف أنه أسلم وهاجر
مع عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد وبذلك جزم أهل العلم". اه.
قلت: نظرًا لأهمية هذه المسألة قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (2-207):
"عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة: عبد الله بن عبد العزى بن
عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة وهو
ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم،
أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة، هو وخالد بن الوليد
وعمرو بن العاص، وأمّا عمه عثمان بن أبي طلحة، فكان معه لواء المشركين يوم
أحد، وقتل يومئذ كافرًا، وإنما نبهنا على هذا النسب؛ لأن كثيرًا من
المفسرين قد يشتبه عليهم هذا بهذا". اه.
المسألة الثانية: قوله ذلك خطاب للنبي خاصة في أمر مفتاح الكعبة.
قلت: لقد أثبتنا عدم صحة هذا الأمر، وأن القصة واهية من الطريقين، فالآية عامة وليست خاصة.
لذلك قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (2-1920) معقبًا: الأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي:
1- تتناول الولاة فيما لديهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات والعدل في الحكومات وهذا اختيار الطبري.
2- وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك
كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة
الله تعالى.
3- وممن قال إن الآية عامة في الجميع: البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن
عباس، وأبي بن كعب قالوا: "الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة
والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع". اه.
بهذا يتبين للقارئ الكريم أن آية الأمانات عامة وليست خاصة، وقصة نزولها في مفتاح الكعبة واهية.
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.