السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة حريق بيت أبي الدرداء رضي الله عنه
إعداد- علي حشيش
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف
على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الخطباء والوعاظ والقصاص،
وتناقلتها بعض الكتب المصنفة في الأدعية المأثورة.
وإلى القارئ الكريم تحقيق هذه القصة وتخريجها:
أولاً: متن القصة
روى عن طلق بن حبيب قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال: يا
أبا الدرداء قد احترق بيتك. قال: ما احترق. قد علمت أن الله عز وجل لم يكن
ليفعل ذلك لكلمات سمعتهن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قالهن أول
نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالهن آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى
يصبح: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما
شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، اللهم إني
أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط
مستقيم.
ثانيًا: التخريج
الخبر الذي جاءت به هذه القصة أخرجه ابن السني في كتابه "عمل اليوم
والليلة" (ص25) (ح57)، والطبراني في "الدعاء" (2-954)، والخرائطي في "مكارم
الأخلاق" (2-401) من طريق هُدْبَة بن خالد حدثنا الأغلب بن تميم حدثنا
الحجاج بن فُرَافِصَة عن طلق بن حبيب به.
ثالثًا: التحقيق
هذه القصة واهية وسندها تالف وعلته: الأغلب بن تميم.
1- أورده الإمام البخاري في كتابه "التاريخ الكبير" (2-70-1720) وقال: "أغلب بن تميم منكر الحديث". اه.
قلت: وهذا المصطلح عند البخاري يدل على شدة الضعف حيث قال الإمام السيوطي
في "التدريب" (1-349): البخاري يطلق: فيه نظر، وسكتوا عنه فيمن تُركوا
حديثه، ويطلق منكر الحديث على من لا تحل الرواية عنه". اه.
2- أورده ابن حبان في "المجروحين" (1-175) وقال: "أغلب بن تميم منكر الحديث
يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم حتى خرج عن حدِّ الاحتجاج به لكثرة
خطئه". اه.
3- أورده الإمام الذهبي في "الميزان" (1-273-1021) وأقر قول الإمام
البخاري، كذلك وأقر قول الإمام ابن حبان ثم نقل قول الإمام ابن معين في
أغلب بن تميم بأنه ليس بشيء.
4- أورده الإمام العقيلي في "الضعفاء الكبير" (1-117-140) وقال: "حدثنا
محمد قال: حدثنا عباس قال: سمعت يحيى يقول: أغلب بن تميم المسعودي بصري:
سمعت منه، وليس بشيء"، ثم قال: "وليس يتابع". اه.
رابعًا: طريق آخر للقصة لا يصلح للمتابعات أو الشواهد
روى عن الحسن قال: كنا جلوسًا مع رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم فَأُتِيَ فقيل له أدرك دارك فقد احترقت فقال: ما احترقت داري، فذهب ثم
جاء فقيل: أدرك دارك فقد احترقت، فقال: لا والله ما احترقت داري، فقيل له:
احترقت دارك وتحلف بالله ما احترقت، فقال إني سمعت رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم يقول: "من قال حين يصبح ربي الله الذي لا إله إلا هو عليه توكلت
وهو رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم، أشهد أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط
بكل شيء علمًا، أعوذ بالله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من
شر كل دابة ربي آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم لم يصبه في نفسه ولا
أهله ولا ماله شيء يكرهه وقد قلتها اليوم، ثم قال: انهضوا بنا، فقام وقاموا
معه فانتهوا إلى داره وقد احترق ما حولها ولم يصبها شيء".
خامسًا: تخريج هذا الطريق
هذا الطريق أخرجه الحارث في "مسنده" (2-953) (ح1052) قال: "حدثنا يزيد بن هارون، ثنا معاذ أبو عبد الله قال: حدثني رجل عن الحسن به".
وأخرجه ابن السُّني في "عمل اليوم والليلة" (ص25) (ح58) قال: "أخبرني عبد
الرحمن بن حمدان حدثنا الحارث بن أبي أمامة بن محمد حدثنا يزيد بن هارون
به".
سادسًا: تحقيق هذا الطريق
1- القصة أيضًا من هذا الطريق واهية والسند مظلم لجهالة الراوي حيث قال:
حدثني رجل عن الحسن "فالرجل هنا لم يسم، وهذا عند علماء الحديث يسمي
"المبهم" حيث قال البيقوني في "منظومته" "ومبهم ما فيه راوٍ لم يسم"
فالحديث مردود وسبب رد روايته جهالة عينه. لأن من أُبهم اسمه جهلت عينه
وجهلت عدالته من باب أولى فلا تقبل روايته".
لذلك قال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة" (ص135): ولا يقبل حديث المبهم ما
لم يسم لأن شرط قبول الخبر عدالة راويه ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه فكيف
تعرف عدالته؟".
قلت: وهذا الطريق يزيد القصة وهنًا على وهن كما هو مقرر في علم المصطلح كذا
قال ابن الصلاح في "علوم الحديث" (ص107)، وابن كثير في "مختصره" (ص33)،
والسخاوي في "فتح المغيث" (1-242).
2- قول الحسن: كنا جلوسًا مع رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأتي فقيل له أدرك دارك فقد احترقت...".
قلت: فالمبهم هنا ليس هو أبا الدرداء لأن الحسن لم يجالس أبا الدرداء
والشاهد على ذلك قول الإمام ابن أبي حاتم في كتابه "المراسيل" (ص44) رقم
148: قال أبو زرعة: الحسن عن أبي الدرداء مرسل". اه.
قلت: وأقره الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (2-234).
فائدة هامة
1- بهذا يتبين أن الراوي المبهم في السند جعل الصحابي أيضًا مبهمًا، وإن
تعجب فعجب كيف يجلس الحسن مع رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو
لا يعرف اسمه في مثل هذا الأمر الخطير وهو خبر حريق بيته.
وإبهام الصحابي ومجالسته للحسن يحتم أنه لم يكن هو أبا الدرداء لما بيّنا
آنفًا بعدم سماع الحسن من أبي الدرداء، وعلى هذا تصبح هذه قصة أخرى لحريق
بيت صحابي آخر اشتركت مع قصة حريق بيت أبي الدرداء في المعنى.
وهذا ما يسمى في المصطلح بالشاهد.
قلت: ولكنه شاهد لا يعتبر به حيث إن طريقه مظلم والراوي مبهم وكم تحت
الإبهام من أمور عظام كشفت عن كذابين ومتروكين، كذلك والمشهود له هو قصة
أبي الدرداء الواهية والتي لا يصلح لها شواهد لشدة الضعف التي بيناها آنفًا
فكلا الطريقين لا يؤثر كونه شاهدًا أو مشهودًا، وعدم التأثير يدل على أن
الشاهد ظاهري لا حقيقي.
2- حاول البعض أن يجعل الصحابي المبهم في الطريق الآخر هو أبو الدرداء لتكون قصة الحريق لصحابي واحد.
وبهذا الصنيع يصبح الطريق الآخر مشاركًا للطريق الأول في المعنى مع الاتحاد
في الصحابي وهذا ما يسمى عند الجمهور من أهل الفن "المتابع".
وهم بهذا الصنيع زادوا القصة وهنًا على وهن لأن هذا ليس متابعًا حقيقة لأنه لا يعتبر به حيث إن:
1- السند مظلم والراوي مبهم كما بينا آنفًا.
2- الإرسال الخفي لأن الحسن لم يسمع من أبي الدرداء كما بينا أيضًا.
وبهذا يصبح طريق المتابع ظلمات بعضها فوق بعض، بين سقط خفي وإبهام ولا يصح
مع السقط والإبهام متابعات تامة أو قاصرة، هذا بالنسبة للطريق الثاني.
3- والطريق الأول لا يصلح أن يكون تابعًا أو متبوعًا لشدة الضعف التي بيناها آنفًا.
بهذا التحقيق تصبح قصة حريق بيت أبي الدرداء قصة واهية.
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.