بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نعرف أن الأحاديث الصحيحة هي التي رواها ثقات من الرواة، رووها عنه الصحابة ثم رواها عنهم ثقات إلى أن بلغت الأئمة الذين كتبوها في مؤلفاتهم، ومنهم الإمام مسلم صاحب الصحيح فإنه اختار في كتابه الأحاديث الصحيحة، ولذلك يسمى: صحيح مسلم أي صحيح الأحاديث التي كتبها مسلم . مسلم رحمه الله كان من علماء القرن الثالث، ولد في حدود أربع ومائتين ومات سنة إحدى وستين، لم يكمل الستين أي عمره نحو خمس وخمسين سنة، كتب هذا الكتاب وانتقاه من الأحاديث التي يحفظها، وحدث فيه عن مشائخه الذين لهم كتب موجودة: فحدث عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن أبي شيبة له مصنف موجود، وحدث فيه عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وله سنن موجودة، وحدث فيه عن عبد بن حميد وعن سعيد بن منصور وهم أصحاب سنن، ثم اشتهر كتابه وكان فيه تكرار بعض الأحاديث حيث تروى بعدة أسانيد ويقع بين الرواة شيء من الاختلاف ... ولو كان فيه شيء من النقص، حيث إنه يقتصر في الباب على حديث واحد مع كثرة الأحاديث التي فيه، ويقتصر على لفظ واحد ولا يأتي بالألفاظ الباقية ولو كان فيها زيادة فائدة، ولكنه أَلَمَّ بالكتاب، يعني: مجمل الكتاب وأهمه. الإمام مسلم بدأ كتاب الإيمان بحديث جبريل المشهور وهو أشرف ما في الكتاب أو ما في الكتب من الأحاديث لجمعه بين الأحكام وبين أحكام الدين. والمؤلف هنا بدأ بحديث وفد عبد القيس، عبد القيس قبيلة من ربيعة وأهل نجد وأهل الحجاز في ذلك الوقت قبيلتان: ربيعة ومضر، فقبيلة مضر مساكنهم في حدود العراق إلى الحجاز ومنهم: قريش وأسد وخزيمة القبائل المتمكنة في الحجاز وأما قبيلة ربيعة فمساكنهم في البحرين الأحساء اليمامة وما حول ذلك. جاء هؤلاء من عبد القيس، وعبد القيس قبيلة من ربيعة مساكنهم في هجر الأحساء، واعتذروا بأنهم مسلمون ولكنهم لا يستطيعون المجيء إلى المدينة إلا في الأشهر الحرم؛ حيث يأمنون من القتال في شهر ذي القعدة، أو ذي الحجة أو المحرم أو رجب خوفا من كفار مضر؛ لأن بينهم وبينهم حروبا، ولما جاءوا إلى المدينة رحب بهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى أي: تحية لهم وترحيبا بهم وتبشيرا لهم أنهم لا يخزيهم الله، وأنهم لا يندمون على ما فعلوا بل يحمدون العاقبة. فأخبروا بأنهم جاءوا من مكان بعيد، يمكن أنهم قطعوا المسافة في شهرين أو شهر ونصف سيرا جادا، وأنهم جاءوا ليتعلموا فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحكام، وبدأ فعلمهم بأمر العقيدة، ففي هذا الحديث أن أبا جمرة الضبعي كان يترجم بين يدي ابن عباس يعني: ينقل كلامه ويفسره لمن لا يفهمه من غير العرب أو لمن لهم لهجات غير لهجات العرب -أي: قريش- فيفسره لهم فكان ينقل لهم كلام ابن عباس حدث بهذا الحديث أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، لا شك أنه أمرهم بأوامر كثيرة ولكن هذه هي أشهرها. فأمرهم بالإيمان بالله، وفسره بالشهادتين والصلاة لأن هذه ثمرة الإيمان بالله، ومعلوم أن الإيمان بالله يستدعي توحيده، وطاعته، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بخبره ووعده ووعيده، وكل ما أمر به، وكل ما نهى عنه، كل ذلك داخل في الإيمان بالله، والشهادة بلا شك متضمنة للإخلاص له، ومعلوم أيضا أن الشهادة الأولى تستلزم الشهادة الأخرى وهي شهادة أن محمدا رسول الله وذلك لأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الذي دلَّ على لا إله إلا الله، وهو الذي علم أمته أن يقولوا لا إله إلا الله، وأن يعملوا بها؛ فلذلك الشهادتان متلازمتان، والصلاة ثمرة من ثمرات الشهادة، ومن ثمرات الإيمان بالله، وكذلك الصوم أيضا مما تستدعيه لا إله إلا الله، فإن من قال: لا إله إلا الله استلزم ذلك منه أن يأتي بالشهادة كاملة وما تستلزمه من الزكاة والصيام والحج والجهاد وسائر الأعمال الخيرية قولية أو فعلية. وكذلك أمرهم بأداء الخمس إذا غنموا في القتال؛ فإن أداء الخمس لبيت المال من واجب المجاهدين إذا غنموا، وهذا دليل على أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله مَن حولهم من المجوس ونحوهم؛ وذلك لأن أكثر تلك البلاد استولى عليها المجوس الذين هم الفرس فلذلك كانوا يجاهدونهم، وغالبا أنهم سيغنمون يأتيهم غنائم وفي الغنيمة الخمس لبيت المال لقوله تعالى: [url=http://quran.al-islam.com/Display/Display.asp?l=arb&nType=1&nSora=8 &nAya=41] وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [/url] إلى آخره. وفي هذا الحديث أنه نهاهم عن أربع وهذه التي نهاهم عنها مواعين وأوعية أوان يُشرب فيها، نهاهم أن ينبذوا فيها، النبيذ: التمر والماء الذي يُنبذ في إناء حتى يكتسب الماء حلاوة ثم يشرب، وإذا طالت مدته تغير وخُشي أن يكون مسكرا، فنهاهم عن الانتباذ في هذه الأواني، الدُّبَّاء والحَنْتَمُ والنَّقِير أو المُقَيَّر والمُزَفَّت أوان كانوا يستعملونها نهى عنها في هذا الحديث. الدُّبَّاء: هو نوع من القراع يكون عنقه دقيقا وجرمه واسع، إذا يبس جلده أخذوا اللب الذي في داخله وجعلوه إناء يحفظون فيه السمن واللبن والماء، فقد ينبذون فيه، وحيث إن رأسه وعنقه ضيق لا يأتيه الهواء إلا قليلا فقد يتغير الشراب فيه بسرعة، التمر والماء، أو الزبيب والماء. ومثله الحنتم ويسمى الجرة، الجرار التي رؤوسها دقيقة تصنع من الطين مما يصنع منه ما يسمى بالأزيار، الطين الذي يطبخ ثم يجفف وتصنع منه هذه الأواني، وحيث إنه شبيه بالدُّبَّاء رأسه ضيق وجرمه واسع إذا نُبذ فيه استدعى ذلك أن يتغير بسرعة فيُخشى أن يكون مسكرا. أما النَّقِير: فهو إناء من خشبة تُنقر نقرا ويجعل رأسها ضيقا من خشب جرم النخل أو الأثل، فهي أيضا يُخشى أنه إذا نبذ فيها أن يتغير. وأما المُقَيَّر والمُزَفَّت: فهو الإناء الذي من خشب ورأسه واسع ولكنه يُطلى بالقار أو يُطلى بالزفت، القار والزفت معروف، هكذا ورد في هذه الأحاديث ثم رُخِّص بعد ذلك في الانتباذ فيها إذا توقى الناس المسكر، انتبذوا في ما شئتم غير ألا تشربوا مسكرا . في هذا الحديث أن في عبد القيس في ذلك الوقت رجلا أشجا، يعني: فيه شجة أي: ضربة في وجهه قد تبينت ويسمى الأشج أشج عبد القيس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة الحلم: هو الصفح، يعني الحليم هو الذي معه تأن، معه حلم يعني عفو وصفح عمن أخطأ عليه أو سبه أو تكلم عليه، والأناة: التأني في الأمور وعدم العجلة، في بعض الروايات أنه قال: خصلتان تحليت بهما أو خصلتان حلاني الله بهما؟ فبشره بأن الله تعالى حلاه بهما، يعني: وصفه بهما أو طبعه عليهما.