:يقول الله جل في عُلاه " وفي الأرضِ آياتٌ للمُوقنين * وفي أنفُسِكُم أفَلَاتُبصَرُون " ويقول سبحانه : " سنُريهم آياتنا في الآفَاقِ وفي أنفُسِهم حتّى يتبيّن لهُم أنّه الحَق"
ما أودعه الله في بني البشر من نعمه نعمتين عظيمتين، نعمتي الضّحكِ ..والبكاء ضَحكٌ وبُكاء أودعهما الله في النّفس الإنسانية والنفس البشرية لتعبر به عن فرحها المرغوب ورضاها به ، ..وأُنسها بما يسُـر
وبُكَـاء .. أودعه الله في النّفس تعبر به عما يعتريها من الخوف والخشية ،والوجل وربّما زاد السرور على النّفس ..فكان من فرط ماقد سرّها أبكاها فهي تبكي في الأفـراح والأحزان!
إنّ الله عـزّ وجل أنشَأ دواعي الضَّحك ودواعي البُكاء وجعلها وفق أسرارٍ ..أودعها في البشر يضحك لهذا ويبكي لذاك ، وقد يضحكُ غـداً ،مما أبكاه اليـوم ،ويبكي غـداً مما أضحكه بالأمس من غير ذُهولٍ ولاجُنـون إنّما هي حالات جِبِليّة خلقها الله فيه " " وفي أنفُسكم أفلا تُبصرُون "
إنّ الله عزّ وجل أنعم علينا بنعمة البكاء لنشكره عليها ، إذ كيف يعيش !من لايبكي كيف يتوب التوبة النصوح إن لم تخالطها دموع الخشية والرجاء ! وقد كان يدعو عليه الصّلاة والسلام : ،اللهم إني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفع ، ومن نفسٍ لاتشبع " ومن قلبٍ لا يخشع ، ومن عينٍ لا تدمع ، "ومن دعاءٍ لا يُستجاب له
:إخواني/أخواتي
،إن البكاء قافلةٌ ضخمة ،حطّت ركابها في سُوقٍ رحبة ما ابتـاع الناس :منها على ثـلاثة أضرب
/1 ضربٌ من النّاسِ اشتروا بُكاء العُشّـاقِ والمعشُوقين ، أصحاب الهوى المتيّمين ، أهل الصّبابة والغـرام ، الذين هربوا من الرّق الذي خُلِقوا له إلى رقِّ الهـوى والشّيطان ، .أعاذنا الله وإياكِ من هذه الحـال ومن أهل النار
2/ وضربٌ من النّـاسِ اتاعوا بكاءَ أهل الحُزن على مصائبهم ورزاياهم وعلى هذا الضرب جُلّ الناسِ ، فاقتصـروا على سلعةٍ وافقت جبلّتهم ،التي جبلهم الله عليها !فاصبحوا لا لهم .. ولا عليهم
3/ ..وضربٌ ثالث اشتروا بكاء الخشية من الله عـزّ وجل ..تِلكٌم البضاعة التي زهد فيهـا كثيـرٌ من النّاس إلا من رحـم الله
،آيَـاتٌ تُتلى ، وأحاديثٌ تُروى و مواعـظٌ تُلقى ، ولكن تدخل من اليُمنى وتخـرج من اليُسـرى ، لا يخشع لها قلب ولا تهتـزّ لها نفس ، ...ولا يسيـلُ على إثرها دمـع
لقد أثنى الله عـزّ وجل في كتابه ،على البكّائين من خشية الله ..وفي طاعة الله الأنقيَـاء الأتقياء الذين لاتُسعفهم الكلمات للتعبير عمّـا يُخالج مشاعرهم من حب ربهم وتعظيمهم له ، وخشية و إجلال :فتفيض دموعهم قربة إلى الله وزُلفى " وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعيُنهم تفيضُ من الدّمعِ ممّا " عرفـوا من الحق
وقال سبحانه جلّ في عُـلاه : " أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولاتبكـون * وأنتم سامدون * فاسجُدوا لله واعبدوا "
إنّ من السبعة الذين يظلهُم الله في ظله يوم لا ظـلّ إلا ظله : " ورجـلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" .. وخصّ البكاء في الخلوة لأن الخـلوة مدعاةً إلى قسـوة القلب ، والجرأة على المعصية ، فإذا ما جاهد الإنسان نفسه ومنعها عن المعصية ، واستشعر عظمة الله وفاضت عينـاه رهبة ورغبة استحق أن يُظلّه الله تحت ظله يـوم لا ظلّ إلا ظلـه ..
:وقد قال عليه الصلاة والسلام "عينان لا تمسهما النار عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرُس في سبيل الله". صحيح الترمذي
وقال ذلك صلوات الله وسلامه عليه ، وهو أتقى الناس لله ، وأخشاهم سـراً وعلناً لله .. !!وأكثر الناس بكاءً من الله
..مِنْ أَحْــوَالِ البَكَّـائِينْ
ثبت في الصّحيحينِ عن أبي مسعُود رضي الله عنه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم "قال له : " اقرأ عليّ القرآن فقال :أقرؤه عليك وعليك أُنزل ؟ "قال : " إنّي أحبّ أن اسمعه من غَيري ، فقرأ من سورة النّساء حتى بلَغَ :قوله تعالى " فكيف إّذاجئنا من كل أمّة بشهيد "وجئنا بك على هؤلاء شهيداً فقال رسول الله صلى الله عليه "وسلم : " حَسْبُـك !فإذا عيناه تذرفان
وثبت عنه صلى الله عليه وسلّم : أنّه كان إذا صلى سُمع لصدره أزيـز كأزيـز المِرجَـل من البكاء ، ..اي كصوتِ القـدر إذا اشتدّ غليَانه
إنّ هذه الدموع الزكيّة النقية التي سـالت من رسول الله صلى الله عليه وسـلم ،تُمثل إحساساً نبيـلاً ومشَـاركةً أسيفة للمحزونين والمكروبين وهي لا تتعارض أبـداً مع كونه عليه الصّلاة والسّلام مثـلاً للشّجاعة ورباطَـةِ الجَأش ..والرّضَـا بقضَـاء الله وقـدره
ولكـنّ بُكـاء المُصطفى الكريم في مواطـن الرحمة والإشفاق ، ،ومن لايرحـم لايُرحـم
" مُحمّدٌ رسُـولُ اللهِ والذينَ معه أشـدّاءُ علَى الكُفّارِ رُحَمَـاءُ بينهم "
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قلت يارسول الله ما النّجاة ؟ ما النجاة؟ ،قال : " أمسك عليك لسَـانك وليسَعـك بيتُك ، "وابـكِ على خطيئتكِ
..يا أحبتي
هذه حالُ الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها عنه الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد كان الربيعُ بن خيثـم يبكي بُكـاءً شديداً ، فلمّا رأت أمه ما يلقاه ولدها من البكاء نادته فقالت : يابنيّ ، لعلّك قتلتَ قتيـلاً ؟ فقال : نعم ياوالده ، قتلت قتيـلاً ، فقالت : ومن هذا القتيل يابُنيّ نتحمّل إلى أهله فيعفُونك ، والله لو علموا ماتلقى من البكاء والسّهر لرحموك ، فقال الربيـع : هي نفسـي ياوالدتي .. هي نفسي !
:في خاتمة المطاف
،لنتقِ الله في أنفُسنا ولنعلـم أنّه لا بُـد من القلق والبُكاء ،إمّا في زاويَة التعبّد والطّاعة أو في هاوية الطّـرد والإبعاد ، فإمّا أن يُحرق قلبُكِ بنار الدّمـعِ على التّقصير ، والشّـوق إلى لقاء العليّ القـدير ، :وإلا فاعلم واعلمي " فليضحكُوا قليـلاً وليبكُوا كثيراً جزاءً بما " ..كانوا يكسِبُون
فانظـر/ي أخي/ة إلى البكّائين الخاشعين ترونهم على شواطئ أنهارالدّموع نزول ، فلو سِـرتِ عن هَـواكِ خطَوات ، .لاحت لكِ الخيَام
تذكروا أن هذا الدين وسـطٌ بين الغالي فيه والجافي عنه، ولا يُفهم من الحث على البكاء والتباكي خشيةً لله أنه دعوة إلى الكـدر ، ولا إلى الرهبنة ، :ولا إلى مايقول أحدهم )ماضحكتُ أربعين سنة)..
،فرسول الله إمام الأمة وقائد الملة كان يضحك ويبتسم :ولكنّه لا يُسمع ضاحكاً ولامفرطاً في الضّحك وثبت عنه أنه قال .." لاتُكثرواالضحك فإن كثرة الضحك تُميتُ القلب "
فلا يضحك ويقهقه ويستلقي على قفاه من شدة الضحك إلا الذي قسَـا قلبه ، وغفل عن الموت ومابعده ، حتى أنه لايلين قلبه ولا تبكي عينه، ولو تُليت عليه آيات القرآن ، بل يطرب لسماع أصوات المظلومين وأصوات المنكوبين ، قد جُرّد قلبه من الرحمة والخوف والرجاء.. !فشتّـان بين الحالين
فمن يكثر البكاء هنا كان من الضاحكين المستبشرين هناك ومن يكثر الضحك واللهو والمزاح هنا كان من الباكين على حاله ..يجر أسبال الندم أعاذنا الله وإياكم من ذلك
،رزقنا الله وإياكم خشيته في السـرّ والعلن وفتح على قلوبنا علماً به وتعظيمـاً له.