بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، ثم أما بعد..
كنت أتصفح بعض كتب الحديث المسندة؛ فوقع نظري على الحديث المشهور في دعاء النبي صلى الله عليه وسلمه والذي يرويه طليق بن قيس الحنفي؛ فحقيقةً وجدت كلماتٍ من أجمل الكلمات؛ ودعواتٍ جامعة مانعة، تشتمل على جوامع الدعاء بأقل العبارات.. فأحببت أن أقوم بتخريج هذا الحديث وتوثيقه، ومن ثم شرح ألفاظه بإذن الله تعالى.
وهذا نصه: (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى [ن هداك، هداي] لي [ن إلي]، وانصرني [ن ولا تنصر] على [ن عليّ] من بغي علي، رب اجعلني لك شاكرا [ن شكارا]، لك ذاكرا [ن ذكارا]، لك راهبا [ن رهابا]، لك مطيعا [ن مطواعا، مطاوعا]، لك [ن إليك] مخبتا [ن مجيبا]، إليك أواها منيبا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، واهد قلبي، وثبت حجتي، وسدد [ن وثبت] لساني، واسلل سخيمة قلبي).
أقول: هذا الحديث لا يعرف إلا من رواية [عمرو بن مرة الجملي المرادي] ثقة ثبت من رجال الصحيحين، عن [عبد الله بن الحارث الزبيدي المكتب المعلم] ثقة من رجال مسلم، عن [طليق بن قيس الحنفي] تفرد به عن [عبد الله بن عباس] رضي الله عنه يرفعه.
وهذا سندٌ إلى طليق = صحيحٌ متصلٌ ثابتٌ لا غبار عليه.. بينما يبقى الكلام على صاحب الحديث (طليق بن قيس) فهو: ثقة إن شاء الله.. وثقه أبو زرعة، والعجلي، والنسائي، وابن حبان، وابن خلفون، ولم أر من جرحه إطلاقا.
ثم هو يروى عن (عمرو بن مرة) من طريقين اثنين:
الطريق الأول: وهو الطريق المحفوظ = طريق [سفيان الثوري]؛ رواه عنه كلٌ من:
- [وكيع] في الزهد رقم (430)، ومن طريقه:
* (ابن أبي شيبة) في المصنف رقم (29390 رشد).
* (هناد السري) في الزهد (2/644).
* (علي بن محمد بن إسحاق الكوفي) عند ابن ماجه في السنن رقم (3830).
* (أحمد بن بديل بن قريش اليامي) عند ابن بطة في الإبانة رقم (1501).
* (محمد بن فضيل بن غزوان الضبي) عند الفسوي في المعرفة (3/242).
- [يحيى بن سعيد القطان]؛ وعنه:
* (الإمام أحمد) في المسند رقم (1997) وفي العلل رقم (4687) ومن طريقه الضياء في المختارة رقم (65).
* (أبو حفص عمرو بن علي الفلاس) عند النسائي في الكبرى رقم (10368)، البخاري في الأدب رقم (665) ومن طريقه العلائي في الأربعين (الحديث 19) وإثارة الفوائد رقم (245).
* (محمد بن أبي بكر المقدمي) عند ابن أبي عاصم في السنة رقم (384).
* (أبو خيثمة زهير بن حرب) عند ابن أبي الدنيا في التهجد رقم (40)، أبو زرعة الدمشقي في التاريخ (1/465)، الضياء في المختارة رقم (66).
* (أبو قدامة عبيد الله بن سعيد اليشكري) عند المروزي في صلاة الوتر (ص340).
* (محمد بن يحيى بن سعيد القطان) عند ابن حبان في الصحيح رقم (948)، أبو الشيخ في ذكر الأقران رقم (345)، الضياء في المختارة رقم (67).
* (عبد الله [بن محمد] بن منصور الهروي) عند ابن منده في التوحيد رقم (329).
* (مسدد بن مسرهد) عند أبو داود في السنن رقم (1511).
* (عبيد الله بن عمر القواريري) عند القالي في أماليه (2/263).
- [أبو عبد الله محمد بن كثير العبدي]؛ وعنه:
* (أبو داود) في السنن رقم (1510).
* (الفضل بن الحباب الجمحي) عند ابن حبان في الصحيح رقم (947).
* (أبو جعفر محمد بن محمد بن حيان التمار) عند الطبراني في الدعاء رقم (1411) ومن طريقه الضياء في المختارة رقم (69) وابن حجر في الأمالي المطلقة (ص206)، ابن المهتدي في الفوائد المخرجة رقم (24 مخطوط) ومن طريقه ابن الكليب في مشيخته رقم (48 مخطوط).
* (يعقوب بن يوسف الفسوي) في المعرفة (3/242) ومن طريقه الحاكم في المستدرك رقم (1910) مقروناً مع رواية قبيصة.
* (إسماعيل بن عبد الله العبدي) عند الضياء في المختارة رقم (68) ومن طريقه ابن حجر في الأمالي المطلقة (ص206)، المزي في التهذيب (13/463).
* (محمد بن معاذ بن سفيان بن المستهل العنزي) عند ابن الشيخة في شعار الأبرار رقم (2180).
-[محمد بن بشر العبدي]؛ وعنه:
* (محود بن غيلان) عند الترمذي في السنن رقم (3551).
- [أبو داود عمر بن سعد الحفري]؛ وعنه:
* (عبد بن حميد) في المسند رقم (717) ومن طريقه ابن حجر في الأمالي المطلقة (ص205).
* (محمود بن غيلان) عند الترمذي في السنن رقم (3551).
* (عباس الدوري) عند البيهقي في الدعوات الكبير قم (195).
* (عمار بن رجاء الجرجاني) عند ابن المقرئ في المعجم رقم (730).. وقد سقط عنده (عبد الله بن الحارث). فتنبه
- [قبيصة بن عقبة السواني]؛ وعنه:
* (البخاري) في الأدب رقم (664).
* (يعقوب بن سفيان الفسوي) في المعرفة (3/242) ومن طريقه الحاكم في المستدرك رقم (1910) مقروناً مع رواية محمد بن كثير.
* (أبو أمية محمد بن إبراهيم الخزاعي) عند الشهاب في مسنده رقم (1496).
- [محمد بن يوسف الفريابي]؛ وعنه:
* (محمد بن يحيى الذهلي) عند البيهقي في الدعوات الكبير رقم (195)، البغوي في شرح السنة رقم (1375) والأنوار (1/735).
* (أحمد بن يوسف السلمي) عند البختري في التاسع من فوائده رقم (1 مخطوط).
- [عمرو العنقزي]؛ وعنه:
* (الحسن بن علي بن عفان العامري) عند البيهقي في القضاء والقدر رقم (371).
- [أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي]؛ وعنه:
* (تمتام محمد بن غالب التمار) عند قوام السنة في الترغيب رقم (1266).
- [عبد العزيز بن أبان القرشي]؛ وعنه:
* (الحارث بن محمد ابن أبي أسامة التميمي) عند الخطيب في المتفق (3/1470).
ومن نكت إسناد هذا الحديث:
- ما قاله ابن ماجه: (حدثنا علي بن محمد سنة إحدى وثلاثين ومائتين؛ قال: حدثنا وكيع في سنة خمس وتسعين ومائة؛ قال: حدثنا سفيان في مجلس الأعمش منذ خمسين سنة؛ قال: حدثنا عمرو بن مرة الجملي في زمن خالد..).
- وما قاله الإمام أحمد: (حدثنا يحيى؛ قال: أملاه علي سفيان، إلى شعبة؛ قال: سمعت عمرو بن مرة..).
- وما قاله محمد بن نصر المروزي: (حدثنا أبو قدامة عبيد الله بن سعيد، ثنا يحيى بن سعيد؛ قال: أملى علي سفيان، كتب به إلى شعبة؛ قال: حدثني عمرو بن مرة..).
- وما قاله ابن الجعد: (حدثني صالح بن أحمد، عن علي، عن يحيى بن سعيد؛ قال: قال لي سفيان _ بعد ثماني عشرة أو سبع عشرة سنة في حديث عمرو بن مرة، عن طليق بن قيس _: حديث الدعاء قد حدثتك به مرة).
- وما قاله أبو زرعة: (وَسَمِعْتُ أَبَا نُعَيْمٍ يَقُولُ: لَمْ يَسْمَعْ سُفْيَانُ مِنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ إِلَّا سَبَعَةَ أَحَادِيثَ، سَمِعْتُهَا كُلَّهَا مِنْ سُفْيَانَ غَيْرَ وَاحِدٍ لَمْ أَضْبُطْهُ، نَرَى أَنَّهُ حَدِيثٌ طَليق بْنِ قَيْسٍ.
فَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ؛ قَالَ: وَكَانَ سُفْيَانُ إِذَا تَحَدَّثَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِمَا سَمِعَ؛ يَقُولُ: حدثنا، وَأَخْبَرَنَا، وَإِذَا دَلَّسَ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ.
فَحَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنْ مُؤَمَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ؛ قال: قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ حَدِيثَ طَليق بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ مُنْذُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يَوْمَئِذٍ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَة).
- وقال النسائي السنن الكبرى حديث (10369): (أخبرنا عمران بن موسى؛ قال: حدثنا عبد الوارث؛ قال: حدثنا محمد بن جحادة، عن عمرو بن مرة، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «رب أعني» وساق الحديث مرسلا. حديث سفيان محفوظ.
وقال يحيى بن سعيد: ما رأيت أحفظ من سفيان. وحكي عن الثوري أنه قال: ما أودعت قلبي شيئا فخانني).
الطريق الثاني: طريق [مسعر]؛ تفرد بروايته:
- الطبراني في الدعاء رقم (1412) قال: (حدثنا أحمد بن عمرو البزار، ثنا أحمد بن أبان القرشي، ثنا سفيان بن عيينة، عن مسعر) به.
- الدار قطني في الغرائب رقم (2444 أطراف تدمريه)؛ وقال: (غريب من حديث مِسْعَر عن عمرو بن مرة، ولا أعلم أسنده عنه _ أي مسعر _ غير ابن عيينة.
ولم يقم إسناده عنه غير أحمد بن روح الأهوازي، وتابعه _ أي أحمد بن روح _ أبو بكر البزار عن أحمد بن أبان.
ورواه ابن أبي عمر، عن ابن عيينة فأسقط من الإسناد عبد الله بن الحارث.
ورواه أحمد بن بشير _ أي عن مسعر _ عن عمرو بن مرة؛ قال: -وأراه رفعه -: أنه كان يدعو بهذا الدعاء.
وقال سعيد بن عمرو: عن ابن عيينة، عن مِسْعَر، عن عمرو، عن رجل لم يسمه، عن ابن عباس).
يتبع بإذن الله تعالى شرح ألفاظه ومعانيه على حسب الوسع والفراغ بحول الله وقوته.
ملاحظة مهمة: قد حصل تصحيف في مصادر التخريج للأسماء، فكل ما خالف فيها ما أثبته هنا فبدله وصححه غير مأمور.
أقول بدايةً: في هذا الحديث رد صريح قاطع، على كلِّ من رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم _ فضلاً عن غيره _ فوق قدره الذي قدّره الله له، وأعطاه منزلةً لم يعطها إياه رب العزة والجلال نفسَه، مع ما يتبع ذلك من غلوٍ وشطحٍ ومجانبةٍ للحق والسنة، مما يجعل هذه المحبة المزعومة والتي خرجت بصاحبها عن طريق الحق ومنهج السلامة = نقمةٌ وشينٌ وتطرفٌ تؤدي _ إن لم يتدارك نفسه ويتقذها _ إلى أن تكون طريقاً سريعاً إلى النار والعياذ بالله.. فلا إفراط ولا تفريط.
قال الإمام ابن بطة بعد روايته لهذا الحديث: (فهذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فهل بقي لمن يزعم أن المشيئة والاستطاعة بيديه حجة يحتج بها؛ إلا بالبهت والجحد للتنزيل وإخبار الرسول بالشقاء والخذلان الذين كتبهما الله عليه!! ونحمد الله على ما وفقنا له من معرفة الحق وهدانا إليه).
قوله: (اللهم أعني ولا تعن علي):
(أَعِنِّي) من الإعانة، أي: على أعدائي في الدين والدنيا من النفس والشيطان والجن والإنس ممن يريدون قطعي عنك. وأيضاً تأتي بمعنى: وَفِّقْنِي لِذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتك كما في حديثٍ آخر.
(وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ) أَيْ: لَا تُغَلِّبْ عَلَيَّ مَنْ يَمْنَعُنِي من ذلك؛ مِنْ طَاعَتِك وذكرك وشكرك مِنْ شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ وغيرهم.
فلا معين للإنسان على صالح دينه ودنياه إلاَّ الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول.
قوله: (وانصرني ولا تنصر علي):
أَيْ: أَغْلِبْنِي عَلَى الْكُفَّارِ وَلَا تُغَلِّبْهُمْ وتسلطهم عَلَيَّ.. كما يأتي بمعنى اُنْصُرْنِي عَلَى نَفْسِي فَإِنَّهَا أَعْدَى أَعْدَائِي وَلَا تَنْصُرْ النَّفْسَ الْأَمَارَةَ عَلَيَّ بِأَنْ أَتَّبِعَ الْهَوَى وَأَتْرُكَ الْهُدَى.
وهذا المقطع تأكيد لما قبله، أو هو من باب عطف الخاص على العام، لأن الأول في الأعداء المقاتلين وغيرهم، والثاني في المقاتلين.
وعلى الأول _ وهو كونه تأكيد لما قبله _؛ فقوله (وانصرني) أي: على نفسي وشيطاني وسائر أعدائي. (ولا تنصر علي) أي: أحداً من خلقك؛ من عطف العام على الخاص.
قوله: (وامكر لي ولا تمكر علي):
الْمَكْرُ من الله عَلَى مَنْ يَمْكُرُ بِهِ = من صفات الله الفعليَّة الخبريَّة التي لا يوصف بها وصفاً مطلقاً، وهي ثابتة بالكتاب والسُّنَّة.
أي: أعني على أعدائي بإيقاع المكر منك عليهم لا عليّ.
والْمَكْرُ: الْخِدَاعُ، وَهُوَ مِنْ اللَّه إِيقَاع بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. وَقِيلَ: اِسْتِدْرَاج الْعَبْد بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ .
قال الأزهري: المكر من الخلائق خبّ وخداع، ومن الله عز وجل مجازاة للماكر، ويجوز أن يكون استدراجه إياه من حيث لا يعلمون مكره.
وقال غيره: مكر الله: إيقاعُ بلائه بأعدائه دون أوليائه. وقيل: هو استدراج العبد بالطاعات، فيتوهم أنها مقبولة له وهي مردودة.
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}: يُظْهِرُ لَهُمُ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ وَغِرَّةٍ وَيُمِيتُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ.
والْمَعْنَى: اللَّهُمَّ اِهْدِنِي إِلَى طَرِيق دَفْع أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيق دَفْعِهِ إِيَّايَ عَنْ نَفْسه، فألحق مكرك بأعدائي لا بِي.
قوله: (واهدني ويسر الهدى لي):
(وَاهْدِنِي) أَيْ: دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَات والمبرات، أَوْ عَلَى عُيُوبِ نَفْسي.
(وَيَسِّرْ الهدى لي) أَيْ: سَهِّلْ أسباب اِتِّبَاعَ الْهِدَايَة، أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَة لِي حَتَّى لَا أَسْتَثْقِل الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِل عَنْ الْعِبَادَة.
قوله: (وانصرني على من بغى علي):
(وَانْصُرْنِي) أَيْ: بِالْخُصُوصِ.
(عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) البغْي هو العُدوان والظلم، أَيْ: انصرني على من ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ، وَهَذَا تَخْصِيص لِقَوْلِهِ وَانْصُرْنِي فِي الْأَوَّل، وتأكيد لقوله (أعني..) إلخ.
وقوله (وانصرني على من بغى علي) دعاء عادل لا دعاء معتد؛ يقول: انصرني على عدوي مطلقا.
قوله: (رب اجعلني لك شاكرا):
(لَك شَاكِرًا) أَيْ: عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ، لا لغيرك، بلساني وجناني وأركاني بأن أصرف ذلك كله إلى ما خلقته لأجله من دوام الذكر وشهود الجلال والقيام بوظائف الخدمة العبودية.
قوله: (لَك ذَاكِرًا):
أي: فِي الْأَوْقَات وَالْآنَاء، لا لمن سواك، باللسان والجنان بذكر أسمائك وجلائل نعمك ودقائقها، فهو كالتأكيد لما علم مما تقرر في الشكر أنه يشمله؛ وكذا يقال فيما بعده.
قوله: (لَك رَاهِبًا):
أَيْ: خَائِفًا فزعاً فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، منقطعاً عن الخلق متجرداً عنهم متوجهاً إليك.
وفي لفظ (لك ذكارًا، لك شكارًا، لك رهابًا) على وزن فعّال بصيغة المبالغة في المواضع الثلاثة، أي: كثير الذكر لك في الأوقات والآناء، كثير الشكر على النعماء والآلاء، كثير الخوف والرهبة من المعصية ومن الغضب والسخط، أو جامعًا لشكر القلب وشكر العمل وشكر اللسان، وشكر القلب: أن تعلم أن كل نعمة عليك فهي من الله وأن تلتذ بكونها من الله. وشكر العمل: أن تجعل النعمة في محلها كما أمر الله. وشكر اللسان: التلفظ بحمده بعد هذا والعلم والعمل.
قوله: (لَك مِطْوَاعًا):
بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَال لِلْمُبَالَغَةِ؛ أَيْ: كَثِير الطَّوْع وَهُوَ الِانْقِيَاد وَالطَّاعَة ، وَفِي لفظٍ (مُطِيعًا) أَيْ: مُنْقَادًا.
قوله: (إِلَيْك مُخْبِتًا):
هُوَ مِنْ الْإِخْبَاتِ؛ وَهُوَ الْخُشُوع وَالتَّوَاضُع؛ مع الإخلاص في ذلك.
أَيْ: خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا، مِنْ الْخَبْت وَهُوَ الْمُطَمْئِنُ مِنْ الْأَرْض، يُقَالُ: أَخْبَتَ الرَّجُل إِذَا نَزَلَ الْخَبْت، ثُمَّ اِسْتَعْمَلَ الْخَبْت اِسْتِعْمَال اللِّين وَالتَّوَاضُع؛ قَالَ تَعَالَى: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أَيْ اِطْمَأَنُّوا إِلَى ذِكْره، وسكنت نفوسهم إلى أمره.
فالمخبت هو المتواضع الذي اطمأن قلبه إلى ذكر ربه، وأقيم اللام مقام (إلى) لتفيد الاختصاص، قال تعالى: {وبشر المخبتين الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}.
قوله: (أواهاً مُنِيبًا):
(أوّاهاً) بتشديد الواو، فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ: أَوَّهْ، أَيْ: قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوَّهْ ؛ أي: أكثر التأوه من الذنوب وهو التضرع, وقيل: كثير الدعاء، وقيل: كثير البكاء.
وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ، أَيِ: اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ، أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ، وَقِيلَ: الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ.
(منيباً) الْإِنَابَة الرُّجُوع إِلَى اللَّه بِالتَّوْبَةِ والإخلاص وفي الأمور كلها، يُقَالُ: أَنَابَ إِذَا أَقْبَلَ وَرَجَعَ، أَيْ: إِلَيْك رَاجِعًا. فأناب إلى الله = أقْبل وتاب.
وَإِنَّمَا اكْتُفِيَ فِي قَوْلِهِ (أَوَّاهًا مُنِيبًا) بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ، فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}.
قوله: (رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي):
بِجَعْلِهَا صَحِيحَة بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاع آدَابهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَاده}.
قوله: (وَاغْسِلْ حَوْبَتِي):
(حوبتي) بِفَتْحِ الْحَاء وَيُضَمُّ؛ أَيْ: اُمْحُ ذَنْبِي وأزل خطيئتي وإثمي. قِيلَ: هِيَ مَصْدَرُ حُبْتُ أَيْ أَثِمْتُ، تَحَوَّبَ حُوبَةً وَحُوبًا وَحَبابَةً. وَالْحُوبُ بِالضَّمِّ مَصْدَر، وَالْحَاب الْإِثْمُ؛ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَزْجُورًا عَنْهُ.
فالْحَوْبَةُ الزَّلَّةُ وَالْخَطِيئَةُ، وَالْحُوبُ: الإِثْمُ، وَكَذَلِكَ الْحَوْبُ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلا اسْتَأْذَنَ فِي الْجِهَادِ؛ فَقَالَ: «أَلَكَ حَوْبَةٌ؟»، يَعْنِي: مَا تَأْثَمُ بِهِ إِذَا ضَيَّعْتَهُ.
والْحُوب فِي الْأَصْل لِزَجْرِ الْإِبِلِ، وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ دُونَ الِاسْمِ وَهُوَ الْحُوبُ = لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مِنْ فِعْلِ الذَّنْبِ أَبْلَغُ مِنْهُ مِنْ نَفْسِ الذَّنْبِ؛ كَذَا قِيلَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} ثُمَّ ذَكَرَ الْغَسْلَ لِيُفِيدَ إِزَالَتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ بحيث لا يبقى منه أثر، وَالتَّنَزُّهُ وَالتَّقَصِّي عَنْهُ كَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْقَذِرِ الَّذِي يَسْتَنْكِفُ عَنْ مُجَاوَرَتِهِ.
قوله: (وَأَجِبْ دَعْوَتِي):
أَيْ: دُعَائِي جميعه.
قوله: (وَاهْدِ قَلْبِي):
أي: إلى الصراط المستقيم، وقيل: إلى معرفة ربي، وقيل: إلى درك الحقائق الشرعية.
قوله: (وَثَبِّتْ حُجَّتِي):
أَيْ: عَلَى أَعْدَائِك فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى. أَوْ ثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ في القبر.
بمعنى: قو إيماني بك وثبتني على الصواب عند السؤال والحساب.
ويريد بالحجة: الدليل والبينة، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وعند جواب الملكين في القبر. ومنه قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} جاء في التفسير: أنه مسألة الملكين في القبر.
قوله: (وَسَدِّدْ لِسَانِي):
السداد = الِاعْتِدَال فِي الْأَمر وإيقاعه على الصَّوَاب، أَيْ: صَوِّبْه وَقَوِّمْه واجعله متحرياً للسداد حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ؛ فأكون مصيبا.
قوله: (وَاسْلُلْ سَخِيمَة قَلْبِي):
(واسلل) بِضَمِّ اللَّام الْأُولَى؛ أَيْ: أَخْرِجْ. ومنه: حديث عائشة رضي الله عنها: فانسللْتُ من بين يديْه، أي: خرجت بتأن وتدْريج.
و(سخيمة قلبي) السَّخِيمَةُ: بفتح السين المهملة، وكسر الخاء المعجمة، وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها ميم مفتوحة وتاء تأنيث = الحقْدُ في النفسِ والضَّغِينَةُ والغضب، أَيْ: غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ وَحَسَدَهُ وكبره وَنَحْوَهَا مِمَّا يَنْشَأُ مِنْ الصَّدْر وَيَسْكُنُ فِي الْقَلْب مِنْ مَسَاوِئ الْأَخْلَاق. مِنَ السُّخْمَةِ وَهُوَ السَّوَادُ، وَمِنْهُ سُخَامُ الْقِدْرِ.
وَإِضَافَتُهَا إِلَى الصَّدْرِ = لِأَنَّ مَبْدَأَهَا الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ الَّتِي فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ فِي الصَّدْرِ، وَسَلُّهَا إِخْرَاجُهَا وَتَنْقِيَةُ الصَّدْرِ مِنْهَا؛ مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ.
وَقد ترد بِمَعْنى آخر كَمَا فِي حَدِيث: "من سل سخيمته فِي طَرِيق الْمُسلمين فَعَلَيهِ لعنة الله" فَإِن المُرَاد بهَا هُنَاكَ الْغَائِط.
والله تعالى أعلى وأعلم